ما الذي يجري الآن بين أوروبا والصين؟! وما تأثيره القريب والبعيد المدي على علاقة أوروبا بالولايات المتحدة من ناحية، وعلاقة الصين بروسيا من ناحية، ثم علي الحرب الأوكرانية ومسارها من ناحية ثالثة، وأخيراً علي الشكل المحتمل للنظام العالمي الجديد المنتظر؟!
أسئلة طرحتها الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الفرنسي ماكرون للصين مؤخرا وعقد خلالها قمة مهمة مع نظيره الصيني في بكين.
ما سبق الزيارة لا يقل أهمية عن الزيارة نفسها وما دار فيها.. ويمكن الاحاطة به فيما يلي:
أولا- دور سياسي إقليمي وعالمي نشط بدأته الصين مؤخرا، وبطريقة ممنهجة واستهدفت من خلاله اثبات أنها ليست فقط قوة اقتصادية أو عسكرية أو تكنولوجية عالية، بل أيضا قوة سياسية ودبلوماسية تملك من أدوات التأثير والنفوذ ما يمكنها من إحداث اختراقات في السياسة الدولية، استعدادا لدور قيادي رئيسي في النظام العالمي الجديد.
وقد برز هذا الدور من خلال عدة مبادرات.
> مبادرة السلام التي قدمتها الصين لوقف الحرب الأوكرانية وبدء مفاوضات سلام وتتكون من ٢١ نقطة، وهي المبادرة التي أياً كان الاتفاق عليها أو الاختلاف حولها ماتزال المبادرة الرئيسية علي المائدة والتي يدور حولها حديث جاد.
> نجاح الدبلوماسية الصينية الذي فاجأ العالم، في التوصل إلي اتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران للجلوس معا علي مائدة مفاوضات مباشرة تعيد العلاقات الدبلوماسية المجمدة بينهما وتفتح مجالا لتسوية القضايا الإقليمية التي تتعلق بمصلحة البلدين.
> الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الصيني لروسيا وعقد خلالها قمة مع الرئيس الروسي» بوتين«وأثارت ردود فعل عالمية واسعة ومتباينة خاصة أنها جاءت بعد انقطاع الاتصالات التي كان يقوم بها زعماء أوروبيون مع الرئيس الروسي وبالتحديد كل من الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشار الألماني »شولتز«.
> تزايد المشاعر الشعبية داخل العديد من الدول الأوروبية بوطأة الحرب الأوكرانية وما تضيفه من أعباء حياتية متزايدة علي المواطن الأوروبي في ظل غياب أي أفق واضح لنهايتها، بينما لا يتحمل المواطن الأمريكي نفس الأعباء رغم أن بلاده هي التي تدفع في اتجاه استمرار وتصعيد الحرب وهو ما أشعر الأوروبيين بأنهم محشورون في هذه الحرب بين مطرقة »بوتين« وسندان »بايدن« وجعلهم يفكرون في البحث عن مخرج.
ولقد وصلت رسالة المواطن الأوروبي في هذا الصدد إلي قياداته ورأينا وسمعنا أصواتا تحدثت علي ضرورة أن تنصت أوروبا والعالم لصوت الصين، وأن تستدعي الدور الصيني للساحة وكان رئيس الوزراء الإسباني أبرز من دعا الأوروبيين إلي ذلك وترددت هذه الأصوات أيضا في قصر الإليزيه بباريس ودار المستشارية في برلين.
وساعد علي ذلك ان بين أوروبا والصين علاقات جيدة سياسيا ومصالح هائلة ومتنامية اقتصاديا وان الصين ليست طرفا في الحرب الأوكرانية ولا تشجع الحلول العسكرية للمشكلات الدولية.
> أمريكا في هذا السياق لها موقف مختلف.. فهي توافق علي تقارب أوروبي- صيني إذا كان سيساهم في ابعاد الصين عن روسيا وتعطيل التقارب المتزايد بينهما مؤخرا.. لكنها لا توافق مطلقا علي تقارب أوروبي- صيني يمكن أن تستخدمه الصين لشق التحالف الغربي- الأوروبي- الأمريكي وتعزيز النزعة الاستقلالية لأوروبا من الولايات المتحدة والصعود لقيادة النظام العالمي علي أطلال هذا التحالف، خاصة أنها تعتبر الصعود العالمي للصين أكبر تحد يواجه قيادتها.
هذه هي الأرضية التي قادت الرئيس الفرنسي »ماكرون« إلي قصر الشعب في بكين للقاء نظيره الصيني.
ومن الملفت للنظر ان ماكرون لم يذهب إلي بكين وحده وإنما ذهبت معه رئيسة المفوضية بالاتحاد الأوروبي »أورسولا فون دير لاين« في مشهد نادر الحدوث ومعبر عن أن ماكرون لا يحمل إلي نظيره الصيني رسالة الفرنسيين وحدهم بل جاءت معه من تملك صلاحية الحديث بلسان الاتحاد الأوروبي كله.
مخرجات الزيارة بعيدا عن 18 اتفاقية تعاون وقعها الزعيمان في مختلف المجالات كانت تعبيرا عن هذه المقدمات وحملت مؤشرات مهمة.
قال الرئيس الصيني لنظيره الفرنسي ان الصين تنظر إلي أوروبا باعتبارها »قطبا مستقلا« وهو تعبير يتناغم مع تطلعات ماكرون شخصيا ويلقي صدي طيبا لديه، فهو الداعي إلي أن يكون لأوروبا جيش موحد ونظام دفاعي مستقل عن الولايات المتحدة وأن تعزز أوروبا قدرتها علي حماية نفسها.
ووجدنا صدي هذا التعبير لدي ماكرون عندما صرح بأن »أوروبا لا يجب ان تتبع سياسة الصين أو الولايات المتحدة تجاه تايوان« أي أن تكون مستقلة عن الطرفين.
وأنه يتعين علي أوروبا تقليل الاعتماد علي الدولار في تعاملاتها للحد من اعتمادها علي الولايات المتحدة.
وأن الخطر الكبير الذي تواجهه أوروبا أنها »عالقة في أزمات ليست من شأنها مما يمنعها من بناء استقلالها الإستراتيجي ولذلك علي الأوروبيين ألا يكونوا أتباعا للولايات المتحدة في أزمات لا دخل لأوروبا فيها«.
هل يمكن البناء علي هذا التوجه الأوروبي وتطويره في اتجاه أوروبا مستقلة، ولا بـ»حكم ذاتي إستراتيجي« كما يعبر عنه ماكرون لتكون قوة عظمي في النظام العالمي الجديد؟!
ثم ما هو موقف روسيا من هذا التوجه وهي التي يقع جزء من أراضيها في المجال الجغرافي الأوروبي؟
»لافروف« وزير خارجية روسيا المخضرم أعلن في تصريح الأسبوع الماضي ان الاتحاد الأوروبي خسر روسيا وأصبح معادياً وهذا خطأه، فالدول الأعضاء به وزعماؤه هم الذين يعلنون صراحة انه من الضروري إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا كما تسعي الدول غير الصديقة لمحاولة »دق اسفين في الصداقة بين روسيا والصين«.
وتستمر تفاعلات الحرب الأوكرانية خارج ميادين القتال العسكري، وفي الانتشار والتمدد وصياغة قوالب وأشكال ترسي في النهاية حجر الأساس لنظام عالمي جديد.
من أجندة الأسبوع
> مجموعة »بريكس« التي تضم خمس دول: روسيا- الصين- الهند- البرازيل- وجنوب أفريقيا تتخطي هذا العام مجموعة الدول السبع الصناعية الكبري: أمريكا- كندا- اليابان- بريطانيا- فرنسا- ألمانيا- وإيطاليا، في مساهمتها في الناتج الاجمالي العالمي.
منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة »الفاو« تعلن انخفاض أسعار الغذاء العالمية بنسبة واحد وعشرين بالمائة منذ بداية الحرب الأوكرانية حتي الآن!!
بقلم/الأستاذ محمد أبو الحديد
الكاتب الصحفي القدير