التقاعد الباكر في تونس.. تحت غطاء التقاعد الباكر والاختياري، تخطط السلطات التونسية لتسريح 9 آلاف موظف من القطاع الحكومي العام المقبل عبر برنامج أطلقت عليه “التسريح الطوعي“، في إطار خطة منها لاحتواء كتلة الأجور المتفاقمة والجاثمة على المالية العامة لبلاد.
التقاعد الباكر في تونس
ويقدر موظفو القطاع الحكومي بـ 680 ألف موظف يكلفون موازنة البلاد العام المقبل نحو 23.7 مليار دينار (7.6 مليار دولار)، في مقابل 22.7 مليار (7.3 مليار دولار) دينار في العام الحالي، وهو ما يعادل 13.5 في المئة من الناتج المحلي الخام و39.6 في المئة من نفقات الموازنة.
إلى ذلك كشفت وزيرة المالية سهام البوغديري في تصريحات إعلامية سابقة عن خطة التسريح الطوعي للموظفين، موضحة أن الحكومة تستهدف تسريح 6 آلاف موظف سنوياً على مدار الأعوام الأربعة المقبلة، بما سيساعد في “استعادة التوازنات المالية للبلاد” وفق تصورها.
في غضون ذلك يطرح تضخم عدد الموظفين في تونس جدلاً واسعاً في أوساط المتخصصين والأكاديميين في علاقة بعضوية مع الإنتاجية والفاعلية في خدمة المواطنين والفاعلين الاقتصاديين.
وتتناغم خطة الحكومة التونسية في تسريح الموظفين مع طلبات سهام البوغديري الذي اقترح عليها تقليص عدد الموظفين في القطاع العام لتقليل كتلة الأجور المرتفعة، إذ تعد من أكبر الكتل في العالم.
ويستهدف البرنامج المخصص للتقاعد قبل بلوغ السن القانونية خلال الفترة الممتدة من عام 2022 وحتى 2024 إحالة 9 آلاف موظف في خطوة من الحكومة السابقة والحالية على تجفيف كتلة الأجور الجاثمة على المالية العمومية، والتي أضحت تمثل عبئاً كبيراً على توازنات موازنة الدولة.
وبالتوازي مع الإجراءات الأخرى الموافقة لتعصير الوظيفة العمومية وتحفيز الموظفين يبرز البرنامج المخصص للتقاعد قبل بلوغ السن القانونية كأحد الآليات التي اهتدت إليها الحكومة لتخفيف ثقل كتلة الأجور.
وطالب صندوق النقد الدولي من قبل الحكومات التونسية المتعاقبة بإيجاد حل جذري لحجم كتلة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي لتونس الذي وصل عام 2016 إلى 17 في المئة من الناتج الداخلي الخام.
أما بالنسبة إلى البرنامج الاستثنائي للإحالة على التقاعد قبل بلوغ السن القانونية، بموجب قانون المالية لسنة 2022 فيمتد حتى ديسمبر (كانون الأول) 2024 ويخص الموظفين الذين يبلغون سن 57 سنة في الأقل، مع التمتع بجارية فورية من تاريخ الإحالة إلى التقاعد.
وتكشف الإحصاءات الخاصة بالبرنامج حتى سبتمبر 2023، عن أن العدد الإجمالي للمطالب وصل إلى 10449 طلباً، قُبل 9350 مطلباً، فيما بلغ عدد المطالب المرفوضة 154 مطلباً، في حين بلغ عدد الموظفين الذين انتفعوا بجارية التقاعد حتى الـ 18 من سبتمبر 2023 نحو 6916 موظفاً.
يشار إلى أن قانون المالية لسنة 2023 في الفصل الـ 12من يضمن ترشيد الزيادة في سن الإحالة إلى التقاعد بهدف خفض عدد الموظفين والتخفيف من ضغوط المالية العامة بزيادة عدد الأعوان المغادرين من طريق التقاعد العادي.
من جهته أقر المتخصص المالي بسام النيفر أن هناك علامات استفهام عدة وغموضاً حول مسألة تسريح الموظفين، إذ إن سعي الحكومة إلى إحداث توازنات على الموازنة قد يكون بهذه المسألة له عواقب وخيمة على توازنات الصناديق الاجتماعية في البلاد المكلفة بصرف جرايات التقاعد لنحو واحد مليون تونسي، وأضاف لـ “اندبندنت عربية” أن “هناك تضخماً لافتاً في عدد الموظفين في تونس”، معتبراً أن “عملية التسريح المقنعة تحت غطاء التقاعد الباكر والاختياري تعد أمراً إيجابياً في اتجاه التخفيف من عدد الموظفين، وخصوصاً تخفيف أعباء كتلة الأجور وتوفير هامش تحرك للحكومة، إلا أنها في الوقت نفسه ستطرح إشكالات من جانب آخر”.
وأوضح النيفر أن “الإشكالات تتعلق بأن التسريح سيفرض ضغوطاً مضاعفة على الصناديق الاجتماعية التي تعاني بدورها من مشكلات مالية قد تدخلها في دوامة لن تخرج منها”، مشيراً إلى أن هذه الصناديق تمنح جرايات تقاعد بقيمة 10 مليارات دينار سنوياً (3.2 مليار دولار).
وتابع أنه مع إحالة نحو 15987 موظفاً على التقاعد القانوني (62 سنة) في عام 2024 وإضافة 9 آلاف موظف في إطار التسريح الاختياري ليكون المجموع 24987 موظفاً، بما من شأنه أن يقلص بصورة ملحوظة عدد الموظفين.
وكشف النيفر أن هذا المسار سيتواصل في مقبل الأعوام، مرجحاً أن يصل إلى أكثر من 80 ألف موظف عام 2027 بين خروج بصورة طبيعية وتسريح بما سينزل بكتلة الأجور إلى مستويات معقولة تتوافق مع متطلبات صندوق النقد الدولي.
وعن باقي علامات الاستفهام قال النيفر إنها “تتصل بصدور أمر حكومي منذ أيام عدة في الجريدة الرسمية للبلاد التونسية يقر التمديد للكوادر العليا للدولة العمل إلى حدود 70 عاماً ما يطرح تناقضاً في سياسة الدولة وتساؤلاً كبيراً”.
وفسر هذا الإجراء بأن الدولة ترغب في الحفاظ على كوادرها، خصوصاً تلك التي تتمتع بخبرة كبيرة والتي يصعب تعويضها في ظل عدم رغبتها في الانتداب بالتوازي مع مواصلة انتهاج سياسة التسريح
وفي الأثناء أظهرت دراسة للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع للرئاسة الجمهورية حول أزمة الوظيفة العامة في البلاد أن عدد الموظفين في القطاع الحكومي تضاعف 16 مرة منذ خمسينيات القرن الماضي، إذ ارتفع من نحو 36 ألف موظف عام 1956 إلى أكثر من 660 ألفاً بنهاية العام الماضي.
وبينت الدراسة التي صدرت عام 2021 أن عدد موظفي القطاع الحكومي تضخم بعد عام 2012 بسبب عمليات التوظيف العشوائية، وتسبب تضخم عدد موظفي القطاع الحكومي في إثقال موازنة البلاد بكتلة أجور، اعتبرها صندوق النقد الدولي من بين الأضخم في العالم، بسبب استئثارها بأكثر من 17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة عام 2016.
بدوره قال أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية رضا الشكندالي إنه “من الضروري تقليص أعداد الموظفين في القطاع الحكومي مشترطاً تشجيع المبادرات الخاصة بإنشاء المشاريع لزيادة نسب النمو من جهة، والحد من الطلب على التوظيف في القطاع الحكومي الذي جرى إغراقه بالموظفين مقابل إنتاجية ضعيفة”، وأشار إلى أنه لاحتواء كتلة الأجور ينبغي فتح تحقيقات داخل الوزارات في شبهات صرف أجور لمصلحة موظفين متوفين أو غير مباشرين لوظائفهم، معتبراً أن إعادة النظر في قواعد بيانات موظفي القطاع الحكومي أمر ضروري.
ولفت الشكندالي إلى أن “هناك زيادة بنحو 20 ألف موظف جديد تم انتدابهم لوظائف حكومية، وفق ما كشفت الموازنه التعديلية لعام 2021، منهم نحو 6 آلاف عامل في الحظائر تمت تسوية وضعيتهم ليتم إدراجهم في كتلة الأجور المتهالكة، مما ينذر بعواقب وخيمة على المالية العمومية التونسية”.
وأكد الأستاذ الجامعي أن “تزايد الانتدابات في الوظائف الحكومية سيرهق موازنة الدولة ويرغمها على إيجاد الحلول العاجلة لتوفير الأجور التي تمثل وحدها زهاء 40 في المئة من حجم الموازنة العامة، وذلك إما من طريق اللجوء إلى الاقتراض الخارجي مثلما حدث خلال الأعوام الماضية، أو طلب التمويل المباشر من البنك المركزي التونسي، وهو ما يحظره القانون المنظم للبنك”، من جانب آخر أشار الشكندالي إلى اختلال التوازنات الاقتصادية والمالية لتونس جراء كتلة الأجور، موضحاً أن “كتلة الأجور ما انفكت تنتفخ من عام إلى آخر في مقابل التراجع الكبير وغير المبرر للناتج الداخلي الخام التونسي، مما سيعمق الإشكالات المالية للبلاد”.