تعد مسألة انخفاض الجنيه المصري أمام سلة العملات الأجنبية أحد أبرز انعكاسات الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها مصر منذ ثورة 25 يناير 2011،
وبالتالي بات المواطن العادي هو الأكثر تضررا وتسبب الانخفاض المستمر في قيمة الجنيه في معاناة المصريين من أزمة اقتصادية مركبة تتمثل في فقدانهم معظم قيمة مدخراتهم بالعملة المحلية من جهة،
وارتفاع أسعار السلع والخدمات أضعافا مضاعفة من جهة أخرى، ولكن هذا الضرر الكبير بدأ فعليا عقب تعويم الجنيه في نهاية العام 2016.
وهوى الجنيه المصري إلى أدنى مستوى له على الإطلاق عند أكثر من 19 جنيها مصريا مقابل الدولار، ويسجل في كل يوم مستوى قياسيا جديدا إذ ينخفض بقرش أو بضعة قروش في كل مرة إلى أن بلغ 19.38 جنيها لكل دولار أميركي تقريبا بتاريخ 14/9/2022 .
علما بأن قبل اندلاع ثورة 25 يناير2011 بلغ سعر صرف الجنيه أمام الدولار نحو 5.70 جنيهات، وبلغ أقصى انخفاض له 8.86 جنيهات قبل التعويم وقوانين الاصلاح الاقتصادى فى نوفمبر2016،
وهوى بعدها بشكل متسارع إلى 18.89 جنيها، ثم استقر ما بين 16 جنيها و15.6 جنيها بين عامي 2019 وحتى مارس 2022 حين هوى إلى 18.30 جنيها دفعة واحد.
تاريخ الجنيه ومراحل السقوط
• يوم 2 نوفمبر 2016 سجل سعر صرف الدولار 8.79 جنيه للدولار، قبل قرار التعويم
• يوم 3 نوفمبر 2016 سجل سعر صرف الدولار 14.655 جنيه للدولار، بعد قرار التعويم
• يوم 20 ديسمبر 2016 سجل سعر صرف الدولار 19.5605 الأعلى رسيمًا على الإطلاق
• يوم 20 مارس 2022 سجل سعر صرف الدولار 15.7786 قبل قرار التعويم الأخير
• يوم 21 مارس 2022 سجل سعر صرف الدولار 18.2884 بعد قرار التعويم الأخير
• يوم 3 أغسطس 2022 سجل سعر صرف الدولار 19.1484
• يوم 14سبتمبر 2022 سجل سعر صرف الدولار 19.37 (أعلى سعر منذ 20 ديسمبر 2016 )
مصر وصندوق النقد الدولى
وفى الوقت الذي تسعى فيه مصر بإصرار للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي، تفاضل السلطات حاليا بين خيارين: إما ترك عملتها المقومة بأعلى من قيمتها تضعف تدريجيا، أو خفضها بشكل حاد مثلما فعلت في أزمة عملة مماثلة قبل ست سنوات، وسط تحذيرات خبراء الاقتصاد من أن لكل خيار مخاطر وتبعات
وسياسة سعر الصرف من أهم القضايا التي تواجه محافظ البنك المركزي الجديد حسن عبد الله ومنذ تعيينه فى أغسطس الماضي، يسمح البنك المركزي بخفض الجنيه أمام الدولار بأقل من 0.01 جنيه (0.0005 دولار) في اليوم في المتوسط.
ويمكن لمثل هذا النهج أن يخفف من تأثير خفض قيمة الجنيه على الأسعار.
وقد تكون الوتيرة التدريجية لخفض قيمة العملة ضرورية لاحتواء التبعات السلبية باهظة التكلفة نتيجة تراجع سعر الصرف على التضخم والدين العام والنقد الأجنبي غير الخاضع لضوابط”.
علما بأن تباطؤ تخفيض قيمة العملة قد يؤدي أيضا إلى إطالة مدة النقص في النقد الأجنبي وعرقلة النمو والمعنويات، كما قد لا يفي هذا النهج بمتطلبات صندوق النقد الدولي.
علما بأن”ميزة الخفض مرة واحدة هي تبديد التكهنات، من حيث المبدأ، بأن المزيد من التخفيضات قادمة، وهذا يساعد في تثبيت توقعات التضخم ويحد من دوافع الاحتفاظ بالعملات الأجنبية .
وقد عقد محافظ البنك المركزي الجديد سلسلة من الاجتماعات مع الوزراء للمساعدة في وضع خطة السياسة النقدية والمالية .
وقال بيان لمجلس الوزراء إن المناقشات ركزت على ضرورة ”توفير التمويل اللازم لتدبير السلع الاستراتيجية والأساسية، مع استعراض آخر مستجدات المفاوضات مع صندوق النقد الدولي” ، وتوفير مستلزمات الإنتاج للمصانع.
وأعلن صندوق النقد الدولي في مارس الماضي أن مصر طلبت برنامج دعم مالي جديدا، لكنه قال في يوليو إن الدولة بحاجة لإحراز “تقدم حاسم” في الإصلاحات المالية والهيكلية.
وقال الصندوق أيضا إن زيادة قابلية أسعار الصرف للتغير يمكن أن تكون قد ساعدت في تجنب تراكم الاختلالات التي مصدرها من الخارج وتسهيل التكيف مع الصدمات الاقتصادية.
وخلال أزمة العملة في عام 2016، قررت مصر تعويم الجنيه، إلا أن العملة خسرت نصف قيمتها في غضون أسابيع، وقفز التضخم لأكثر من 30 في المائة في معظم العام التالي، وتدخل البنك المركزي بعد ذلك للحفاظ على قوة الجنيه.
وفى مثل الظروف الاقتصادية الحالية يتوقع خفضا لقيمة العملة المصرية متبوعا بنظام صرف أجنبي مرن مرتبط ببرنامج صندوق النقد الدولي أخذا فى الاعتبار سابقة عام 2016 من قوانين الاصلاحات الاقتصادية ربما قد تحدث على الأرجح خلال الأشهر المقبلة، بعد الموافقة على اتفاق على مستوى موظفي صندوق النقد الدولي وكخطوة مسبقة لموافقة المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي.
وكان البنك المركزي السابق أعلن تحرير سعر الصرف في نوفمبر 2016 لتتحول مصر إلى اتباع سعر صرف حر يتم تحديده وفقا لآلية العرض والطلب بالبنوك،
ولكن في يونيو الماضي قال المحافظ إن السياسة النقدية عادت وقت جائحة كورونا إلى اتباع سياسة تثبيت سعر الصرف لتجنب وجود صدمات سعرية.
من وراء خفض الجنيه الحكومة أم صندوق النقد
رغم أن معظم البنوك الاستثمارية وبيوت الخبرة الاقتصادية والمحللين الماليين كانوا يؤكدون أن الجنيه المصري مقوم بأكثر من قيمته بنسب مختلفة ولكنها في كل الأحوال لا تقل عن 15% قبل الأزمة الروسية الأوكرانية،
فإن البنك المركزي المصري كان يتبع ما تعرف بسياسة التعويم المدار، أي أنه هو الجهة الوحيدة التي تقرر سعر صرف الجنيه وليس آليات العرض والطلب، وهو ما أدى إلى نتائج عكسية في نهاية المطاف، بحسب هؤلاء المحللين، وزاد ذلك من الضغط على الجنيه.
للوهلة الأولى يبدو أن خفض الجنيه مرتبط بتوجه مصر في كل مرة إلى صندوق النقد الدولي، ولكن الصندوق ليس السبب في هذا الخفض، رغم أنه أحد أهم مطالبه. حيث ان المحافظة على سعر منخفض للدولار وتحديد أسعار الصرف إداريا من قبل البنك المركزي غير مقبول من صندوق النقد، ويؤدي إلى تشوهات في السوق، ويتسبب في ظاهرة التغيرات الحادة والمفاجئة كما حدث في نوفمبر 2016.
حيث من المعروف إذا أرادت الحكومة تحديد سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأخرى، فيجب أن تمتلك سيولة كبيرة من العملات الأجنبية تستطيع من خلالها التحكم في قيمة الجنيه إداريا بدلا من اللجوء إلى صندوق النقد الدولي.
أسباب اقتصادية أم سياسية؟
بالعودة إلى سياسة البنك المركزي المصري، فإن خفض الجنيه لا تتحكم فيه أسباب اقتصادية فقط بل سياسية أيضا ، فإن هذه الاعتبارات السياسية متعلقة بغلاء الأسعار وما ينجم عنها من آثار مجتمعية.
ولتوضيح الأسباب الاقتصادية التي تدفع مصر للتوجه إلى صندوق النقد الدولي ومطالبته بخفض الجنيه، أن مصر تحتاج إلى 41 مليار دولار حتى نهاية 2023 لسد عجز الحساب الجاري وسداد الديون المستحقة، في حين لا يغطي الاحتياطي الأجنبي (33 مليار دولار) لوحده هذه الفاتورة .
ماهو المبلغ الذى تريده مصر من صندوق النقد؟
وكان وزير المالية المصري قد أكد – وفق تصريحات رسمية – أن حجم الدعم المطلوب من صندوق النقد الدولي أقل من 15 مليار دولار، ضمن آلية تسهيلات تمويل موسعة يجري التفاوض عليها بين الجانبين منذ عدة شهور.
وشرعت مصر أواخر عام 2016 في تنفيذ برنامج مع صندوق النقد لمدة 3 سنوات، تضمّن قرضا بقيمة 12 مليار دولار، تزامنا مع خفض قيمة العملة بشكلٍ حادّ وتقليل الدعم.
وفي 2020 حصلت مصر من الصندوق، بموجب اتفاق استعداد ائتماني، على 5.2 مليارات دولار، بالإضافة إلى 2.8 مليار دولار بموجب أداة التمويل السريع، مما ساعد السلطات في معالجة تأثير تداعيات كورونا، وفقا لبيانات الحكومة المصرية .
الجنيه بين التعويم والتعويم المدار
تظل مسألة قيمة الجنيه محل شد وجذب بين مصر وصندوق النقد الدولي، حيث أن فوائد “تخفيض الجنيه قد يقلل من الفجوة التمويلية من خلال تقليل الواردات لأنها ستصبح أغلى وزيادة الصادرات لأنها ستصبح أرخص، لكن لهذا التخفيض أعراض جانبية كبيرة، أهمها غلاء الأسعار خصوصا بوجود معدلات تضخم مرتفعة أصلا .
ونوضح أن التعويم الكامل هو ألا يتدخل البنك المركزي مطلقاً في تحديد سعر الصرف، بالتالي يبقى سعر الصرف خاضعاً لقواعد السوق.
أما التعويم المدار، فهو أن يتدخل البنك المركزي بصفة دورية كصانع لسوق الصرف، بالتالي يحدد البنك المركزي أسعار بيع وشراء العملة المحلية، ويتدخل في كثير من الأحيان في شراء وبيع العملة المحلية والعملات الأجنبية.
كما يعني ترك سعر الصرف يتحدد وفقاً للعرض والطلب مع لجوء المصرف المركزي إلى التدخل كلما دعت الحاجة إلى تعديل هذا السعر مقابل بقية العملات، وذلك استجابة لمجموعة من المؤشرات مثل مقدار الفجوة بين العرض والطلب في سوق الصرف، ومستويات أسعار الصرف الفورية والآجلة، والتطورات في أسواق سعر الصرف الموازية.
وأن قيام البنك المركزي المصري بتحديد سعر الصرف هو تدخل إداري غير مطلوب،حيث نظام أسعار الصرف إما أن تكون السوق هي أساسه وتتحدد الأسعار على أساس العرض والطلب، وإما أن يكون إداريا عن طريق البنك المركزي”.
وان تدخل البنوك المركزية تتوقف على معدل التضخم المستهدف ومعايير الاستقرار المالي المحددة سلفا، ولكن في اقتصاد عشوائي وغير منضبط وعدم وجود سياسة، يتحول دور البنك المركزي إلى ذراع إدارية للسلطة التنفيذية، وهو ما يتعارض مع قوانين إنشاء البنوك المركزية التي تنص على ضمان استقلاليتها عن الحكومة .
ماهو أتجاه البنك المركزى للجنيه ؟
مما سبق سرده نرى إن البنك المركزي يعمل على التحول إلى سياسة سعر صرف مدار بطريقة ذكية عبر خفض الجنيه بشكل تدريجي،
حيث أن التعويم المدار سيجعل المحافظ الجديد أكثر قدرة للسيطرة على التضخم مقارنة بترك سعر الصرف لسعر السوق بشكل كامل والذي قد ينتج عنه تداعيات سلبية.
وهي سياسة ناجحة يديرها محافظ البنك المركزي الجديد معتمدا على خبرته وتخصصه في إدارة المعاملات الدولية والخزانة حتى يصل للسعر العادل للجنيه.
حيث أن عدم اتباع سياسة الخفض الكبير لسعر الصرف دفعة واحدة يجنب مصر حدوث صدمات سعرية وحدوث موجة تضخمية، وعدم استغلال بعض التجار مطامعهم في رفع الأسعار بدرجة حادة.
و أن الأوضاع الاقتصادية المصرية يتماشى معها سياسة الخفض التدريجي حتى الوصول إلى السعر العادل للجنيه وفقا لآلية العرض والطلب.
وحتى نحمى الجنيه المصرى ( المسكين )لابد من إعادة هيكلة الاقتصاد المصري ليصبح اقتصادا إنتاجيا بدلا من الاقتصاد الجبائي،
بحيث تضاف إيرادات جديدة بالعملة الأجنبية، ويزداد الإنتاج والصادرات وتنمو السياحة، مما يساعد الدولة على سداد ديونها وتحسين مستوى الدخل، وبالتالي سيعاود الجنيه ارتفاعه ( بمعنى رفع رأسه ) مجددا ولن ينهار ولن يحدث تضخم ( ولن ينحنى أمام الدولارمرة أخرى).
بقلم /دكتور محمد الشوربجي
الخبير الاقتصادي