في منتصف الثمانينات من الالفية السابقة واثناء مروري بمكتبة الصحف والمجلات لفت انتباهي مجلة رياضية متناهية الجمال فطلبت من البائع ان اراها فكان اول تعارف بيني وبين مجلة الصقر الرياضية التي تحولت ومع مرور الاحداث والزمان الي شبكة كبيرة فيما بعد ، في ذلك الزمن وحتى الان كانت الرياضة اكبر واجمل ادمان عشقناه وعايشناه بشكل يومي ، وفي مرحلة تالية انتشرت قنوات (ايه آر تي) الرياضية وشاهدنا من خلالها العديد من الاحداث الرياضية اهمها كاس العالم لكرة القدم في دورات مختلفة متتالية ثم كان الحدث الاكبر وهو استحواذ شبكة الجزيرة على تلك القنوات في العام ٢٠٠٩م بقيمة ٢٣ مليار سعودي حينها ، شكلت تلك الصفقة في ذلك التاريخ واحدة من اكبر واهم عمليات الاستحواذ في عالمنا العربي ، الا ان كل ذلك الاستحواذ الذي كان نواته وبذرته مجلة الصقر الرياضية بعينها التي تمددت فيما بعد لتكون واحدة من اهم الشبكات العالمية للبث والاعلام الرياضي في العالم بأسره
كل تلك المقدمة ساقتني اليها صفقات الانتقالات الكبرى التي اجرتها الاندية السعودية من خلال حصولها على خدمات اهم الاعبين في العالم ابتداء من صفقة رونالدو وانتهاء بصفقة نيمار والتي لن تكون الاخيرة سواء في السعودية او في دولنا الأخرى، وهو ما اثار كثير من الاسئلة، عن لماذا هذا الاهتمام بالرياضة وكرة القدم ولماذا هذا الاتفاق الهائل عليها ولماذا تخصص كل هذه الموارد المالية لها
بعد انتهاء كاس العالم الاخيرة في قطر وما قدمته من نجاحات ساحقة في التنظيم وابهار العالم بأفضل كاس عالم لكرة القدم منذ نشأتها وحتى تاريخ اقامتها في دولة قطر ، عندما فازت في العام ٢٠١٠ بتنظيم الكاس في ٢٠٢٢ استغرب الكثيرون ، لماذا دولة بحجم قطر تنفق اكثر من ١٠٠ مليار دولار امريكي على بطولة تستمر لحوالي شهر فقط وما هي العوائد التي سوف تعود عليها مع هذا الاتفاق الضخم ، ثم اتت الاندية السعودية واكملت رواية بقية القصة بتعاقدات ضخمة مع افضل لاعبي العالم وبصفقات لم تستطع الأندية الأوروبية مقابلتها ، فكان لابد ان نتوقف عند مصطلحين في غاية الاهمية هما الرياضة القوة الناعمة للاقتصاد ودبلوماسية الرياضة الشعبية وهو ما سوف نستعرضه في هذا المقال
فمصطلح القوة الناعمة يشير إلى القدرة على التأثير والإقناع من خلال وسائل غير عسكرية، مثل الثقافة والاقتصاد والرياضة والفن والدبلوماسية وتستخدم لبناء علاقات إيجابية وتعزيز النفوذ بشكل غير مباشر ، فالقوة الناعمة الاقتصادية تتعلق بقوة الدولة في تحقيق تأثير إيجابي على الساحة الدولية من خلال قوتها الاقتصادية ويشمل ذلك عوامل مثل النمو الاقتصادي المستدام، الابتكار، الاستثمار، التجارة، وتقديم المساعدات الإنمائية ، ويمكن للقوة الاقتصادية الناعمة أن تسهم في تعزيز التعاون الدولي والارتقاء بالعلاقات بين الدول.
الرياضة باعتبارها أحد أذرع القوة الناعمة الجديدة للدول تلعب دوراَ محورياً من خلال تأثيرها على العلاقات الدولية والانفتاح الثقافي. فعلى سبيل المثال، تستخدم الدول قوتها الناعمة لتحسين صورتها الدولية من خلال تنظيم الأحداث الرياضية الكبيرة مثل الألعاب الأولمبية. هذا يمكن أن يؤدي إلى تعزيز الجذب السياحي وتعزيز العلاقات الثقافية بين البلدان.
ان انتقالات اللاعبين الأخيرة للمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية ودولة قطر يمكنها ان تحسن وتساهم في تقوية الدبلوماسية الشعبية بين الدول التي ينتمي اليها اللاعبين المنتقلين والدول لتي انتقلوا اليها من خلال الدبلوماسية في مجال الرياضة الشعبية الاولي في العالم كرة القدم كوسيلة لتعزيز العلاقات الدولية والثقافية بين البلدان وذلك من خلال متابعة هؤلاء اللاعبين بالدوري السعودي وغيره من الدوريات العربية الأخرى من قبل شعوبهم واهتمامهم بثقافة وعادات وتقاليد دولنا ومنطقتنا ولعل ذلك كان واضحا في كاس العالم الأخيرة الذي أقيم في قطر والذي اؤمن وبحق كانت جسراً للتواصل بين شعوب العالم المختلفة وشعوب منطقتنا لتعزيز التواصل والتفاهم بين الثقافات المختلفة بالإضافة إلى ذلك، يمكن للاعبين والفرق الرياضية التي يمثلوها أن يكونوا سفراء للقوة الناعمة من خلال توجيه رسائل إيجابية والمشاركة في مبادرات خيرية واجتماعية، مما يساهم في بناء تصور إيجابي عن بلدانهم وثقافاتهم وعكس ثقافاتنا وعاداتنا لدولهم وتحسين الصورة الإيجابية لدول المنطقة في مختلف دول العالم ، فالعالم باسره ومثلما تابع واهتم بكاس العالم في دولة قطر سوف يتابع وبلا شك تجربة انتقال اساطير كرة القدم الي المملكة العربية السعودية وبقية دول المنطقة ، مما يمنحنا الفرصة لبناء صورة مغايرة عن المجتمعات والدول العربية في اذهان دول العالم
نعم الرياضة بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص قادرة على ان تحدث تأثيراً إيجابيا كبيراً على الاقتصاد من خلال صناعة الرياضة نعم فالرياضة أصبحت الان من اهم الصناعات العالمية كالبث التلفزيوني والتسويق والدعاية والاعلان وصناعة الضيافة والسفر بالإضافة للملابس والمعدات الرياضية ، فكاس العالم الأخيرة باعتباره من اكبر الفعاليات الرياضية العالمية كان وسيلة لجذب السياح بأعداد هائلة الي منطقة الخليج العربي باسره وليس دولة قطر فحسب ولعلنا نتذكر ما قدمته دول الامارات وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية من عروض ترويجية عظيمة للسياح المستهدفين من خلال ناقلاتها الوطنية كطيران الامارات والسعودية والطيران العماني بالإضافة للعروض الفندقية الضخمة التي وفرتها لجذب اكبر عدد من السياح بما ساهم وبشكل فعال في انعاش الحركة السياحية بعد ازمة وجائحة كورونا، ايضاً لمسنا التطور الهائل للبنية التحتية في قطر على مدار الاثني عشر عاماً منذ لحظة فوز ملفها بتنظيم نهائيات كاس العالم 2022 وما شيدته من ملاعب عالمية يشار اليها بالبنان والتي تعتبر مفخرة لكل الدول العربية ، ،انشاء الطرق والجسور وشبكة المترو والقطارات وتأهيل مطار حمد الدولي وإعادة تشغيل مطار الدوحة القديم لاستيعاب الرحلات الجوية القادمة من جميع اصقاع العالم وما تبع ذلك من انشاءات ضخمة في قطاع الضيافة متمثلاً في انشاء العديد من الفنادق والمطاعم والقطاعات اللوجستية الأخرى ، مما اسهم وبشكل فاعل في تعزيز وتحسين الدورة الاقتصادية لمجمل قطاعات الاقتصاد والاعمال في دولة قطر ، بالإضافة الي تعزيز الهوية الوطنية حيث تحقق الإنجازات الرياضية الكبيرة على المستوى الدولي منافسةً وإثارة للفخر الوطني، مما يمكن أن يشجع على روح المشاركة المجتمعية والدعم للرياضة والأندية المحلية ، وهذا ما سوف نشهده قريباً وبكل تفاصيله في المملكة العربية السعودية بصفة عامة، الرياضة لها تأثير كبير على الاقتصاد من خلال إيجاد فرص عمل وتعزيز السياحة وتطوير البنية التحتية وتحسين الصحة وتعزيز الروابط الاجتماعية، فانتقالات اللاعبين إلى الدول العربية يمكن أن تمثل نوعًا من القوة الناعمة فعندما ينتقل لاعب كرة قدم أو لاعب في أي رياضة أخرى إلى دولة عربية، يمكن أن يكون له تأثير كبير على عدة جوانب أهمها زيادة الجذب الإعلامي والاعلاني لهذه الدولة وتعزيز صورتها الدولية كما انه يسهم في تبادل الثقافات وتقديم لمحة عن تنوع الثقافات في تلك الدول. هذا يمكن أن يساهم في تقوية العلاقات الثقافية وتعزيز التفاهم المتبادل ، كما انه يعتبر عاملاً محفزاً للشباب في الدولة لتعزيز مهاراتهم وانشطتهم الرياضية بما يساهم في تطوير الرياضة المحلية ورفع مستواها لتنافس في وقت قريب الدول الأوروبية ودول أمريكا الجنوبية في مجال كرة القدم او غيرها من الأنشطة الرياضية الأخرى وفي هذا الصدد فأنني ادعو ان تحذو دولة الامارات العربية المتحدة ودولة قطر حذو المملكة العربية السعودية ولكن في مجال آخر ككرة السلة التي لها اهتمام عالمي يضاهي كرة القدم وتعتبر أيضا مضماراً للتسابق وتطوير كرة السلة في عالمنا العربي ، وبالتالي لا نتنافس في نفس القطاع الا وهو قطاع كرة القدم ، وفي هذا الصدد لا ننسى ان دولة الامارات العربية كان لها قدم السبق في استخدام الرياضة كقوة ناعمة من خلال استحواذها على نادي مانشستر سيتي في بريطانيا وتحويله الي بطل لقارة أوروبا من فريق متوسط عند الاستحواذ عليه وصاحب اعلى قيمة تسويقية في العالم ،من بعدها جاءت دولة قطر باستحواذها على فريق العاصمة الباريسية باريس سانت جيرمان واستقطاب اشهر اللاعبين في العالم كميسي ومبابي ونيمار ومن ثم تبعتهم المملكة العربية السعودية بالاستحواذ على نادي نيوكاسل الإنجليزي ، كل تلك الاستحواذات كان لها اثر مباشر في ابراز القوة الناعمة لتلك الدول بالإضافة الي كونها عمليات استثمارية اقتصادية هامة لها ،هذا ما يعزز الترابط بين الرياضة كقوة ناعمة للاقتصاد وأيضا كدبلوماسية شعبية لها تأثيراتها علي الراي العام العالمي فالرياضة لها تأثير كبير في خلق رأي عام عالمي من خلال تعزيز التواصل والتفاعل بين الشعوب والثقافات. تُعزز الرياضة التضامن والتعاون وتعكس قيم الروح الرياضية والتنافس الصحي. قد تكون الأحداث الرياضية الكبرى، مثل دورة الألعاب الأولمبية، وسيلة لتوحيد العالم ونشر رسالة سلام وتفاهم.
بالمجمل، فانتقالات اللاعبين إلى الدول العربية يمكن أن تكون وسيلة لتعزيز القوة الناعمة وتعزيز التفاعل الثقافي والرياضي بين الدول المختلفة بالإضافة الي تأثيرها الاقتصادي المباشر فانتقال لاعبين مشهورين إلى الدول العربية يمكن أن يؤدي إلى زيادة الإقبال على مشاهدة المباريات وحضور الفعاليات الرياضية، وهذا يسهم في تعزيز الاقتصاد المحلي من خلال زيادة الإيرادات من بيع التذاكر والإعلانات والمزيد.
نعود مرة اخري الي تنظيم كأس العالم في قطر الذي كان له الأثر الكبير على تشكيل قوة ناعمة جديدة لهذا البلد بالإضافة الي قوتها الإعلامية فقد زاد تنظيم الكاس من زيادة القوة الناعمة للبلد كما زاد من الانتباه العالمي لها وهذا ساهم في تعزيز الصورة الإيجابية لقطر وتسليط الضوء على تطورها وقدرتها على استضافة حدث عالمي بهذا الحجم ، كما ان استضافة وتنظيم الكاس اسهم في تعزيز التفاهم والتبادل الثقافي بين دول العالم المختلفة ومنطقتنا العربية وهو ما يساعد ويساهم في تعزيز التواصل بين شعوب العالم ، كما انه لعب دورا هاماً في دور قطر المحوري في المنطقة والاقليم وعزز من صورتها الإيجابية وتحسين السياحة بمختلف قطاعاتها وزاد من هجرة العقول البشرية اليها التي اكتشفت فيها بقعة جديدة تساهم وتعمل على تطويرها جدية لان تلك الهجرة سوف تشكل قيمة مضافة لدولة قطر كما انه ساهم في تعزيز الاستثمارات وتدفقها لتلبية الاحتياجات المتزايدة والمتنوعة بعد كاس العالم ،فكاس العالم لم يكن فقط هي المسابقة التي أقيمت ونظمت في شهر واحد وانما انعكاسات التنظيم من الناحية الاقتصادية سوف تظهر في المدي المتوسط والبعيد وسوف نري دولة متقدمة يمكنها مقارعة الدول الأوروبية والأمريكية في قدرتها على تنظيم الاحداث العالمية والمؤتمرات وتعزيز قدرتها في استقطاب الشركات العالمية والإقليمية شريطة توافر الظروف المناسبة لها ، وسوف تكون وجهة سياحية جديدة يتطلع اليها العديد من القادمين في ظل توفر القطاعات اللوجستية الداعمة لقطاع السياحة مثل القطاع الفندقي وقطاع الطيران وهي فرصة مواتية جدا ان تشرع دولة قطر في استحداث طيران اقتصادي على غرار مثيلاتها من دول الجوار ، كما ان ذلك سوف ينعكس وبلا شك في تدعيم قطاع الاستثمار والاعمال من خلال تدفق العديد من رؤوس الأموال التي تسعي للبحث عن مناطق آمنة للاستثمار وهو ما يتوفر لدول منطقة الخليج العربي جميها دون استثناء ، كل ذلك يعزز من مكانة الرياضة كقوة ناعمة جديدة للاقتصاد ويعزز من قدراتها كقناة للدبلوماسية الشعبية والانفتاح على جميع شعوب العالم
كل ذلك متوقع حدوثه وبشكل اكبر بالمملكة العربية السعودية لما للمملكة من دور إقليمي هام في المنطقة وباعتبارها قبلة المسلمين وبما يساهم في تعزيز السياحة الترفيهية والدينية بالمملكة ، كما لا ننسي ان المملكة وموقعها الجغرافي وتعدادها السكاني وقدراتها المالية كفيلة بان تكون لاعباً رئيسياً في الدبلوماسية الشعبية للرياضة وتعزيز قوة المملكة الناعمة في مختلف المجالات وتحديد بإبراز دور المملكة كقوة ناعمة في المجال الرياضي وانعكاسات ذلك على القطاع الاقتصادي بمختلف افرعه ، لان الرياضة لها تأثير إيجابي على الاقتصاد من خلال تعزيز الصورة الدولية، وتشجيع السياحة والاستثمار، وتحسين الصحة واللياقة البدنية، وتعزيز الرياضة المحلية، وتعزيز الروابط الثقافية.
بقلم/دكتور محمود فراج
الخبير الاقتصادي