فاجأت الصين الكثيرين فى العالم بإعلان نجاحها فى جمع السعودية وإيران على طاولة مفاوضات واحدة وتوقيع اتفاق برعايتها لإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما.
الاتفاق لم يكن سهلا، بل جاء تتويجاً لرحلة جهود دبلوماسية شاقة قادتها الصين، وشاركت دول خليجية فى دفعها قدما من خلال استضافة بعض حلقاتها.
الوصول إلى الاتفاق نجاح مؤكد.. لكن النجاح الأكبر هو ترجمته على مستوى العلاقات الثنائية بين الرياض وطهران أولا وعلى مستوى العلاقات الإقليمية، خاصة فى المناطق التى تتداخل فيها السياسات الإيرانية مع الأهداف العربية.
هذا بالطبع يقتضى استمرار الرعاية الصينية لمراحل تنفيذ الاتفاق بكل ما تحمله من تفاصيل يمكن ان تسكنها عشرات الشياطين، خاصة وأن تنفيذ الاتفاق سيواجه من جانب بعض الأطراف الإقليمية والعالمية بمقاومة سرية وعلنية التى ترى من وجهة نظرها أنه يخل بتوازن القوى الإقليمى أو يتعارض مباشر مع مصالحها.
أسافين كثيرة، وعراقيل أكثر تنتظر تنفيذ هذا الاتفاق وهو ما يجب ان تدركه الصين والسعودية وإيران وكل من شاركوا فى صناعة هذا النجاح.. وأن كل عقبة سيتم اجتيازها ستقتضى دفع ثمن ما.
الصين، بطل هذا الاتفاق، ومن قبله صاحبة المبادرة الوحيدة المطروحة دوليا لإنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية تصوغ لنفسها دوراً جديدا، نشطا وفعالا وإيجابيا، عل مسرح السياسة العالمية، فى التوسط من أجل التوصل إلى تسوية فى قضايا عالمية أو إقليمية التأثير تعكر صفو السلام والأمن الدوليين.
هذا يطرح سؤالا حول فلسفة هذا التوجه الصينى الجديد وما يمثله من موشرات فى عملية تشكيل نظام عالمى جديد متعدد الأطراف.. عادل وعلى قدم المساواة، ينهى القيادة الغربية الأحادية للعالم.
هذا يحتاج للعودة قليلاً إلى الوراء.
>>>
عندما جاء كل من الرئيسين الأمريكيين السابق «دونالد ترامب» والحالى «جو بايدن» فى زيارة للشرق الأوسط من خلال منطقة الخليج العربي، كان الهاجس الأول المشترك بينهما هو: الصين وليس روسيا ولا حتى إيران.
لم تكن روسيا- فى عهد ترامب، إلى انتهت فترة رئاسته فى يناير 2020، قد مثلت نفس الخطر الذى مثلته بعمليتها العسكرية الخاصة فى أوكرانيا خلال عهد بايدن الحالي، ومع ذلك كان الاتفاق الضمنى بين الاثنين أن الصين هى التهديد القادم للغرب، هو ما يعنى ان هذا هو محور رئيسى وثابت فى السياسة الخارجية الأمريكية وعلاقاتها الدولية.
ترامب، خلال ولايته، أشعل حرباً تجارية ضد الصين.. أما بايدن فبدأ مرحلة غير مسبوقة من تطويق الصين بسلسلة من التحالفات العسكرية والشراكات الاقتصادية والإجراءات الاستفزازية.
وخلال زيارة كل منهما لمنطقة الخليج أعلنا صراحة أن أى فراغ ستتركه الولايات المتحدة فى المنطقة سوف تسارع الصين إلى ملئه.
وإذا كان خوف أمريكا والغرب من روسيا يحمل عنوانا عسكريا باعتبار روسيا ثانى أقوى دولة نووية فى العالم، وأن رئيسها «بوتين» لديه أهداف توسعية فى أوروبا لاستعادة مجد الاتحاد السوفيتى القديم، فإن عنوان الخوف من الصين اقتصادى تجارى بحت.. فرغم تقدمها مؤخرا فى المجال العسكرى فإنها لا تميل لاستخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافها، حتى فيما يتعلق بهدف استعادة جزيرة تايوان المنفصلة عنها وهي- أى الصين- تستخدم صعودها الاقتصادى وتفوقها التجارى فى التأثير السياسى على أوسع نطاق ممكن.
إذا كان لديك عدوان قويان أحدهما يملك القوة العسكرية والآخر القوة الاقتصادية والتجارية، فمن الحكمة ألا تواجههما معا فى وقت واحد.. ولا تفعل ما يدفعهما إلى التحالف الكامل ضدك.. هذه إحدى بديهيات التعامل بين الدول كما بين الأفراد.
لكن هذه الحكمة تغيب عن السياسة الخارجية الأمريكية فى الوقت الراهن، رغم ان تسعين بالمائة من خبرة الرئيس الأمريكى على مدى ما يزيد على نصف قرن من انخراطه فى العمل العام، هى فى مجال السياسة الخارجية.
فبدلاً من استثمار بعض التباين فى الآراء والمواقف بين موسكو وبكين واللعب عليها، للحد من زيادة تقارب الدولتين، فإنه يفعل كل ما فى وسعه لاستفزاز الصين، ودفعها دفعا ليس لمزيد من التقارب، بل لتزايد احتمالات تحويل التقارب إلي.. تحالف.
إن كل إجراء استفزازى أمريكي- غربى ضد الصين، يدفع الصين فى مقابلة إلى التخلى عن بعض تحفظها السياسي، والاقتراب خطوة من روسيا، حتى لم يبق لديها من تحفظ تجاه إعلان التحالف معها سوى إنهاء الحرب فى أوكرانيا.
وربما كان هذا الدافع الأكبر لتقدم الصين بالذات بمبادرة لإنهاء هذه الحرب.. تماما، كما ينتظر حلف الأطلنطى انتهاء أوكرانيا من الحرب لضمها لحلف الأطلنطي.
إن الصين اليوم، وبعد عام من الحرب الأوكرانية، أقرب إلى روسيا منها عند بداية العملية العسكرية.. لقد كانت الصين تتمسك فقط بمبدأ وحدة الدولة وسيادتها على أراضيها فى المسألة الأوكرانية، لأنه المبدأ الذى يمثل مظلة شرعية دولية للصين فى سعيها لاستعادة جزيرة تايوان، ولم تكن تعول كثيراً على مسألة «الشواغل الأمنية» التى تثيرها روسيا ضد أوكرانيا والغرب، وتطالب بضمانات فى مواجهتها.
الآن، ونتيجة التصرفات والاستفزازات الأمريكية للصين، ليس فقط فيما يتعلق بقضية تايوان، بل بوضع الصين الخاص فى اقليمها وقارتها، أصبح للصين «شواغل أمنية» خلقتها هذه التصرفات والاستفزازات وجعلتها أكثر تفهما لدواعى روسيا فى عمليتها العسكرية، وأن تضع مراعاة الشواغل الأمنية لروسيا ضمن بنود مبادرتها لإنهاء الحرب فى أوكرانيا.
التحالف الصيني- الروسي، حين يتم سوف يحول التوجه الروسي- ولو مؤقتاً- من أوروبا إلى آسيا، وستصبح آسيا هى مركز الثقل والقوة الجديد، فى النظام الدولى الذى سيتولد بعد انتهاء الحرب فى أوكرانيا وسيحتاج ظهوره واكتماله إلى ما بين عقد أو عقدين من الزمان، لأن ولادته سوف تكون أكثر تعقيدا، والمقاومة ضده أعتى شراسة.
رعاية الصين للاتفاق السعودي- الإيرانى ربما تكون خطوة أولى فى إعداد الساحة الآسيوية لميلاد وتدشين القوة العالمية القادمة، ولذلك فمن المتوقع أن يشجع النجاح فيها الصين على تكرارها فى مشكلات وأزمات أخرى فى القارة الآسيوية.
آسيا، التى تلوح فى الأفق كمركز قوة وثقل فى النظام العالمى الجديد، هى أكثر قارات العالم تنوعا فى كل شيء، وبقدر ما تحويه من تنوع، فإن فرص الاستثمار الايجابى له تتيح لها أن تفكر فى أن تصبح دولها أكثر تقارباً واتحاداً.
وهذا يفتح المجال لجولة جديدة فى هذا الموضوع.
بقلم/الأستاذ محمد أبو الحديد
الكاتب الصحفي القدير