أتابع باهتمام تطورات الأحداث فى منطقتنا العربية الآن، وعينى على القمة العربية المرتقبة بعد شهر من اليوم، والمقرر أن تستضيفها العاصمة السعودية- الرياض- فى التاسع عشر من شهر مايو القادم.
هذه القمة، لها- فى رأيي- خصوصية مميزة عن كثير مما سبقها من قمم عربية خلال الألفية الثالثة، قياساً إلى ما نراه من تعامل القيادات العربية مع قضاياها وقضايا المنطقة والإقليم بفكر جديد، ووعى كبير، يضع نصب عينيه الأمن القومى العربى والمصالح العربية العليا هدفاً رئيسياً ينبغى تحقيقه والحفاظ عليه.
إن جهودا وترتيبات عربية وإقليمية بعيدة المدى وغير مسبوقة جرت خلال الفترة القليلة الماضية ومازالت تجري، من أجل إعادة صياغة العلاقات العربية والإقليمية على أسس من مصالح أطرافها وشواغلها السياسية والاقتصادية والأمنية فى ضوء المتغيرات الدولية التى طرحتها الحرب الروسية- الأوكرانية، والتحديات التى واجهت النظام العالمى القائم، وبدأت معها ملامح نظام عالمى جديد يلوح فى الأفق وتتشكل ملامحه على أرض الواقع.
ولقد كان نجاح هذه الجهود والترتيبات مرتبطا بصورة أساسية بعنصرين رئيسيين:
الأول– تطبيع العلاقات العربية الإقليمية مع دول الجوار بحكم تداخل هذه الدول فى القضايا والمشكلات العربية، ربما يتيح الفرصة لأن يجعل من تسوية هذه القضايا والمشكلات مصلحة مشتركة للطرفين.. العرب ودول الجوار، ويعزز من قوة الطرفين معا فى النظام العالمى الجديد.
الثاني– تثبيت أركان «الدولة الوطنية» على امتداد العالم العربى مشرقه ومغربه، والتى اهتزت بشدة منذ بدء ما سمى بـ»الربيع العربي» قبل اثنى عشر عاما، وفقدت معه كثير من الدول معنى الأمن والأمان والاستقرار بعد أن تعرضت بعضها للتدمير، ووقفت على أعتاب التقسيم أو «التشطير».
كانت بداية هذه الجهود منطقية تماماً.. فقد انطلقت من داخل العالم العربى ذاته، بإزالة السحابة التى ظللت- لفترة- العلاقات بين دولة قطر وبعض أشقائها فى مجلس التعاون الخليجى وخارجه، واستعادة الدور القطرى المؤثر، إقليميا، لصالح العرب ودول الجوار جميعا.
وأسفرت هذه الخطوة الإيجابية عن نجاح قطر فى تحقيق أول اختراق عملى لأزمة العلاقات المصرية- التركية المستحكمة منذ عام 2013 على خلفية سقوط حكم جماعة الإخوان فى مصر،
وذلك عندما جمعت لأول مرة منذ هذا التاريخ بين الرئيس السيسى والرئيس التركى أردوغان فى مصافحة تاريخية خلال حضورهما فعاليات كأس العالم لكرة القدم التى استضافتها الدولة القطرية.
ثم كانت الخطوة التالية، والتى استغرق تحقيقها وقتا، وكان لسلطنة عمان الدور العربى الأبرز فيها، وهى الاتفاق السعودي- الإيرانى الذى تم برعاية الصين، فى مفاجأة للعالم كله، على استعادة العلاقات المقطوعة بينهما.
ولقد شهدت الأسابيع القليلة الماضية، ثمار الخطوتين، سواء على مستوى العلاقات الثنائية بين طرفيهما، أو على مستوى القضايا العربية ذات الصلة والمرتبطة بتداخل دولتى الجوار فيها.
تبادل وزيرا خارجية مصر وتركيا الزيارات الرسمية وكانت مصر أول من وقف إلى جانب تركيا شعبا وحكومة وقيادة فى كارثة الزلزال الأخير، دعما ومساندة وكان لذلك أثر بالغ فتح الطريق أمام الحديث عن امكانية بدء الترتيب للقاء قمة بين الزعيمين السيسى وأردوغان يتحدد زمانه ومكانه وفقا لما تنتهى إليه الاتصالات رفيعة المستوى بين الدولتين.
وعلى المسار السعودي- الإيراني، حدث نفس الشيء والتقى وزيرا خارجية الدولتين لوضع ترتيبات عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما، وما يرتبط بها من ملفات عربية وإقليمية، وتبادلت الدولتان زيارات الوفود لمتابعة تجهيزات فتح السفارتين.. الإيرانية فى الرياض والسعودية فى طهران.
ولقد بدأت آثار هذا التطور الإيجابى فى العلاقات المصرية- التركية والسعودية- الإيرانية تنعكس ايجابيا على القضايا العربية التى تتداخل فيها دولتا الجوار، وتطول بالتحديد ليبيا وسوريا واليمن ولبنان بدرجات متفاوتة ولكن ملموسة فى كل الأحوال.. انفراجة فى ليبيا ولبنان.. ومفاوضات وتبادل أسرى فى اليمن بين الحكومة والحوثيين.. وحديث يلقى دعماً عربياً واسعاً عن استعادة سوريا لمقعدها بجامعة الدول العربية.
وإلى جانب هذا، كان الرئيس السيسى يقود مع أشقائه من الزعماء العرب جهداً متواصلاً وغير مسبوق من أجل تحقيق التضامن والتكامل العربى فى إطار المصالح المشتركة التى تتحرك ما بين روابط التاريخ ورؤى المستقبل.
ودون أن يقفز بجهده إلى الغايات النهائية، كان تحرك الرئيس يتم حثيثاً، بادئاً بدعم العلاقات الثنائية، منتقلا بعدها إلى تشكيل حلقات من التضامن العربي،
ثم ربط هذه الحلقات بعضها ببعض، بدأت أولاها بين مصر والأردن والعراق، ثم جرى ربط هذه الحلقة مع مجلس التعاون الخليجى الذى تطورت علاقات مصر مع دوله بصورة مطردة،
بل وانتقل هذا المنهج إلى علاقات مصر الخارجية بتشكيل حلقة من التكتامل بين مصر وقبرص واليونان لحماية مصالح الدول الثلاث فى منطقة شرق البحر المتوسط.
هذه فقط مجرد أمثلة..
ورغم أن هذه الجهود والترتيبات تتعلق بصفة أساسية بمستقبل النظام العالمي، والمكانة التى يجب أن يحتلها العالم العربى فيه وفقا للمتغيرات الدولية التى طرحتها الحرب الروسية- الأوكرانية أكثر مما تتعلق بحدث بعينه مثل مؤتمر القمة العربية،
إلا أن قمة الرياض المنتظرة بعد شهر شاء قدرها فى هذا السياق أن تكون «محطة» لاختبار هذه التطورات احتفالا بما تحقق، حيث تنعقد على أرضية عربية إقليمية وعالمية جديدة، وعلى أسس وحسابات وموازين قوى مختلفة.
ورغم ان اختيار العاصمة السعودية مكانا لاستضافة هذه القمة.. كان سابقا للاتفاق السعودي- الإيراني، فإن هذا الاتفاق أعطى للرياض قيمة مضافة كمقر لاجتماع قادة العرب فى ظل هذه التطورات الايجابية التى شهدها المسرح العربى على المستوى الثنائى والجماعى بين دولهم، وعلى مستوى العلاقات العربية الإقليمية.
وبالإضافة إلى ذلك أصبح على المملكة العربية السعودية دور خاص فى قيادة جهود الحفاظ على هذا الزخم العربى وحمايته من أية تطورات سلبية تأمينا لنجاح القمة.
ولعل حالة «الهياج» التى تنتاب الحكومة الإسرائيلية فى الأسابيع الأخيرة، وافراطها فى التصعيد العسكرى ضد الفلسطينيين فى القدس المحتلة والمسجد الأقصى وغزة ولبنان وسوريا هى انعكاس للنجاحات العربية..
فإسرائيل ضد أى تطبيع سعودى أو عربى عموما مع إيران، ولا تريد علاقات عربية جيدة مع دول الجوار تصب فى مصلحة استقرار وسلام العالم العربى ولذلك تقوم بمحاولاتها اليائسة لافساد المناخ الايجابى الذى يتحرك العالم العربى إليه.
بقلم/الأستاذ محمد أبو الحديد
الكاتب الصحفي القدير