يبدو أن التاريخ يعيد نفسه
من قارات الجنوب الثلاث: آسيا- أفريقيا وأمريكا اللاتينية، انطلق فى منتصف القرن الماضى قطار التحرر الوطنى ضد الاستعمار الغربى الذى احتل أراضى دول هذه القارات الثلاث، وسيطر على مقدرات شعوبها عقود طويلة ونهب ثرواتها ليصنع بها حضارته وتقدمه.
وكانت مصر «عبدالناصر» والهند «نهرو» والصين «شوان لاي» تتصدر مقاعد قيادة هذا القطار.
ومن قارات الجنوب الثلاث: آسيا- أفريقيا وأمريكا اللاتينية، انطلق قطار عدم الانحياز، بعد أن حققت حركة التحرر الوطنى هدفها الأساسي، واستقلت شعوبها، وأصبح لها حق الاختيار، فى عالم منقسم إلى معسكرين بينهما حرب باردة: معسكر غربي- رأسمالي، ومعسكر شرقي- اشتراكي، فاختارت لنفسها طريقا ثالثاً يحفظ لها استقلالها ويتيح لها مساحة لعب دور فى الشئون الدولية، وهو طريق عدم الانحياز.
ومرة أخرى كانت مصر «عبدالناصر» والهند «نهرو» والصين «شوان لاي»، تتصدر مقاعد قيادة هذا القطار، وانضم إليها يوغوسلافيا «تيتو» من شرق أوروبا.
الآن، وفى نفس قارات الجنوب الثلاث: آسيا- أفريقيا وأمريكا اللاتينية، ينطلق قطار جديد هو قطار «تجمع دول بريكس» بقيادة 41 دولة، تجسد أمل شعوب قاراتها فى صياغة نظام اقتصادي- سياسى عالمى جديد خال من هيمنة قطب واحد على مقدرات شعوب الكرة الأرضية، تشارك دول وشعوب هذه القارات الثلاث فى قيادته بقدر ما حققت من نمو وتقدم اقتصادى وما أصبح لها من نفوذ وتأثير سياسي- إقليمى وعالمي.
ومرة ثالثة، تظهر الصين والهند ومعهما روسيا- الأوروبية الآسيوية- والبرازيل وجنوب أفريقيا فى مقاعد القيادة، ينتظرون تبوؤ مصر مقعدها بينهم أول يناير القادم مع خمس دول أخرى هى السعودية والإمارات وإيران من آسيا وإثيوبيا من أفريقيا والأرجنتين من أمريكا اللاتينية.
هذا فى رأيى وليس أى شيء آخر، هو جوهر ما أسفرت عنه القمة الخامسة عشرة لتجمع دول «بريكس» التى اختتمت أعمالها فى جنوب أفريقيا نهاية الأسبوع الماضى واتخذت فيها قرارها التاريخى بتوسيع عضويتها وضم هذه الدول الست الجديدة إليها، وفى مقدمتها مصر.
لقد وضع التجمع نفسه، بهذا القرار فى «الإطار الإستراتيجى الصحيح» الذى يمثله ويعبر عنه، بل ويستكمل به مقومات وجوده واستمراره، ودوافع انطلاقه فى مرحلة جديدة نحو تحقيق غاياته.
ما حدث فى هذه القمة، هو تعبير عن حركة التاريخ واستلهام لعمق الجذور.
ما حدث فى هذه القمة، هو تأكيد لحيوية شعوب هذه القارات الثلاث، فمنها دائما تنطلق قطارات التحرر والتغيير كلما مالت كفة الميزان لصالح احتكار طرف واحد للتقدم، أو تصوره أنه صاحب السيادة والحق فى الهيمنة على العالم وفرض شروطه وقيمه عليه، وتهديد من يخالفه بالعقوبات بكل أنواعها.
هو تأكيد أيضا لإيمان شعوب هذه القارات الثلاث، بأن وجود مصر شريكاً فى قيادة أى حركة تغيير تنطلق من هذه القارات لصالح المجتمع الدولى والبشرية ضرورى لاستمرار ونجاح هذه الحركة.
>>>
لا يعنى هذا أن التاريخ وحده هو العنصر الحاسم فى اختيار مصر لعضوية هذا التجمع.
ان للتجمع شروطا للانضمام إليه ومعايير يطبقها على كل دولة تتقدم طالبة عضويته.. وهذه الشروط تتمثل في:
> الاستقرار السياسى للدولة.
> القدرة على تحقيق نمو اقتصادى سريع.
> أن تكون اقتصاداً رئيسياً فى منطقتها أو إقليمها.
> أن تتمتع بمرونة تجارية وعلاقات قوية مع أعضاء التجمع.
وواضح ان ما حققته مصر خلال السنوات التسع الأخيرة على مسار التنمية الشاملة والمستدامة والبناء وعلى مسارات مكافحة الإرهاب وما استطاعت تحقيقه من شراكات إستراتيجية مع كل القوى والأطراف الدولية المؤثرة وفى مقدمتها الدول الخمس المؤسسة للتجمع، فضلا عن دوها الرائد فى حل وتسوية المشكلات والنزاعات فى إقليمها، كل ذلك وغيره جعلها ليس فقط مؤهلة لأن تكون فى مقدمة المرحب بانضمامهم للعضوية، بل ومفضلة على عديد من الدول التى تقدمت لنيل العضوية.
>>>
حدثنى بعد ذلك ما شئت، عن المزايا أو الفوائد التى يمكن أن تتحقق لمصر من وراء هذه العضوية قياسا إلى الأهداف التى وضعها التجمع لنفسه وهى الصعود لقمة الاقتصاد العالمى والتقليل من هيمنة الدولار على المعاملات التجارية الدولية، وتوفير قنوات دعم للدول الأعضاء تساعدها على تجاوز وأزمات الديون وتقلبات الاقتصاد العالمي، والتقليل من ضغوط العملات الأجنبية على الدول الأعضاء من خلال السماح بالتعامل فيها بعملاتها الوطنية لحين الاتفاق على إصدار عملة موحدة حين تتوفر الظروف المنسابة لذلك، ومساعدة الدول الأعضاء فى الأزمات الاقتصادية إلى آخره، فضلا عن العمل مع أى أطراف أخرى متاحة من أجل إرساء قواعد ومؤسسات نظام اقتصادى ومالى عالمى جديد تتوفر فيه العدالة.
كل هذه المزايا والأهداف قائمة ومتاحة لكل دولة عضو بمقدار ما يحققه اقتصادها فينمو وتقدم واستجابة لتحديات عصره، أى أن لها ثمنا هو العمل الدائم والدءوب من أجل الارتفاع بمعدلات الإنتاج والتصدير والانخفاض بمعدلات البطالة والزيادة السكانية والفقر.
>>>
يبقى أن نقول ان قرار «بريكس» توسيع عضويتها لم يأت إلا بعد أربعة عشر عاما من تأسيسها وبعد أن بلورت أهدافها وحددت مسارها وانشأت أول وأهم مؤسستين لتحقيق أغراضها وهما بنك التنمية الجديد برأس مال خمسين مليار دولار وصندوق الاحتياطى النقدى برأس مال مائة مليار دولار.
وأن اختيار الدول الست الأعضاء الجدد وهى مصر والسعودية والإمارات وإيران وإثيوبيا والأرجنتين أضاف للمجموعة قوة جديدة هائلة ومتنوعة فى مجالات الطاقة بأنواعها والغذاء والأسواق والممرات البحرية والبرية والمراكز اللوجستية للوصول إلى أكبر مساحة من العالم وهو ما سيجعلها أكثر جاذبية وإقناعا لعشرات الدول، وأشد قدرة على تحقيق غاياتها.
المهم أن يحافظ التجمع على تماسكه وأن يتسلح بكل ما هو ممكن لمواجهة التحديات الدولية القائمة والقادمة.