أصبح المجتمع الدولى اليوم، أكثر انفتاحاً من أى وقت مضي، على فكرة تغيير النظام العالمى الحالى القائم على انفراد قوة دولية واحدة بقيادته، هى الولايات المتحدة، ممثلة للعالم الغربي، والاتجاه إلى إرساء قواعد نظام عالمى جديد، متعدد الأطراف، يعترف لكل شعب بحقه فى الاحتفاظ بقيمه وتراثه الحضارى الممثل لهويته، ولكل قوة دولية صاعدة بحقها فى أن تكون جزءاً من قيادة هذا النظام على قاعدة من الديمقراطية الدولية.
عاملان أساسيان ساهما فى طرح فكرة التغيير هذه على الساحة العالمية.
> العامل الأول هو سوء أداء النظام العالمى القائم على مدى ما يزيد على الثلاثين عاما الأخيرة، منذ انفردت الولايات المتحدة بقيادته عقب انتهاء الحرب الباردة فى مطلع تسعينيات القرن الماضى بتفكك الاتحاد السوفيتى ومعسكره الشرقي.
> أما العامل الثانى فهو الحرب الروسية- الأوكرانية التى مضى على اندلاعها اليوم أربعة عشر شهراً منذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة فى الرابع والعشرين من فبراير العام الماضي.
لقد علق كثيرون فى العالم أملاً كبيراً على انفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي، وتطلعوا إلى عالم جديد تسوده قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهى الشعارات التى يضعها الغرب عنوانا لتحالفه، بما يسمح للكل بأن يتنفس، وأن ينمو، وأن تكون هذه القيم أساساً للعلاقات الدولية، وليس فقط للأنظمة السياسية الداخلية لكل دولة على حده.
هل حققت قيادة النظام العالمى هذا الحلم لدول العالم وشعوبه؟!
لقد أسفرت ما يزيد على الثلاثين عاما من هذه القيادة، عن ظواهر وأوضاع معاكسة تماما لما تطلع إليه المجتمع الدولي.. فمثلاً:
> أصبح حلف شمال الأطلنطى «الناتو» الذى يمثل الذراع العسكرية للتحالف الغربي- الأمريكي- الأوروبي- هو الحلف العسكرى الوحيد فى العالم بلا منافس بعد تفكك الاتحاد السوفيتى ومعسكره الشرقى وحل ذراعه العسكرية وهو حلف وارسو.
ورغم انه بلا منافس.. وربما لأنه بلا منافس، سعى «الناتو» للتمدد شرقاً لضم دول أوروبا الشرقية التى كانت ضمن حلف وارسو.. ثم تحرك خطوة أخرى ضم خلالها الدول التى انبثقت عن تفكك الاتحاد السوفيتى نفسه وأصبحت دولاً مستقلة، ووصل فى تمدده شرقاً إلى تخوم روسيا وريث الاتحاد السوفيتى بما رأته القيادة الروسية تهديداً لأمنها القومي.
وربما يكون ذلك مقبولاً فى إطار أن هذا التحرك مازال داخل نطاق القارة الأوروبية، وبالتوافق مع اسم الحلف وهو حلف شمال الأطلنطي.
لكن الحلف بدأ بعد ذلك فى التحرك خارج هذا النطاق، وايجاد شراكات عسكرية له فى قارات العالم المختلفة، خاصة أفريقيا وآسيا واستراليا، فى محاولة لتطويق روسيا والصين وأى قوة أخرى من خارج التحالف الغربى يمكن أن تصبح منافسا محتملاً لهذا التحالف، بما أعاد للأذهان سلسلة الأحلاف العسكرية الاستعمارية التى أنشأها الغرب فى خمسينيات القرن الماضى لتطويق الاتحاد السوفيتى خلال الحرب الباردة، مثل حلف بغداد وحلف جنوب غرب آسيا والتى كانت تبدأ من أوروبا حيث حلف الأطلنطى وتمتد إلى باكستان.
باختصار، أصبح حلف الأطلنطى رمزا للهيمنة العسكرية الغربية على العالم، فى غياب أية أحلاف عسكرية أخرى منافسة أو حتى صديقة، وفى ظل هذا الحلف كان عالمنا العربى أكبر ضحايا هذه الهيمنة.. غزو العراق.. تدمير سوريا وليبيا واستمرار بل وإقرار الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية.. إلى آخره.
> أصبحت هناك عملة واحدة تسيطر على العالم وتهيمن على مقدراته الاقتصادية وتوجهاته السياسية وهى العملة الأمريكية- الدولار- فى ظل توجه التحالف الغربى لفرض أنماطه الاقتصادية والاستهلاكية على العالم كله، واستخدام مؤسسات التمويل الدولية الخاضعة لسطوته كأداة فى ذلك من خلال ما تضعه من شروط لتمويل عملية التنمية فى الدول التى تسعى لذلك.
هكذا أصبح الدولار رمزاً للهيمنة الاقتصادية والسياسية الغربية مثلما أصبح «الناتو» رمزا للهيمنة العسكرية.
> انشأت الولايات المتحدة نظاما منفردا للعقوبات الدولية خارج نطاق الأمم المتحدة، تسمح لنفسها بمقتضاه أن تفرض عقوبات بلا سقف سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو كلها على أى دولة أو أكثر تفكر فى الخروج عن طاعتها بينما لا يستطيع المجتمع الدولى أن يعاقب الولايات المتحدة من خلال منظمة الأمم المتحدة، ولا أن يعاقب من يحتمى بمظلة الحماية الأمريكية مثل إسرائيل حتى لو خرقت كل المواثيق والقوانين والأعراف الدولية.. وفى نفس الوقت لا يوجد نظام عقوبات دولية خارج الأمم المتحدة لأى قوة أخرى منافسة فى العالم، ولا نظام أو جهة للتظلم من هذه العقوبات.
هكذا أظهر النظام العالمى القائم وقيادته من خلال ممارساته المتصاعدة على مدى ثلاثة عقود اسوأ ما فيه من رغبة متوحشة فى الهيمنة على مقدرات العالم.. إصرار على «غربنة» العالم وان يتبع الجميع النمط الاقتصادى والثقافى والقيمى الغربي.. الأولوية المطلقة لأمن ومصالح الولايات المتحدة وتحالفها الغربي، والتوسع فى تعريف هذا الأمن وتلك المصالح لتشمل كل بقعة فى الكرة الأرضية.. لا حق لأى قوة أخرى فى الصعود أو المنافسة، وإذا حدث وتمكنت قوة- مثل الصين- من ذلك فيجب حصارها داخل أراضيها وتعقبها فى أى بقعة فى العالم تصل إليها بنفوذها.
لقد أصبح أحد الشعارات التى يطرحها الغرب كمبرر لاتخاذ موقف رافض أو معاد لأى دولة أو شعب فى العالم هو ببساطة: «إنهم لا يتبعون قيمنا» وقد انشأ الاتحاد الأوروبي- على سبيل المثال- مفوضية خاصة بين مؤسساته مهمتها الوحيدة نشر القيم الأوروبية فى العالم وبالذات فى الدول التى ترتبط بشراكات إستراتيجية أو اقتصادية مع الاتحاد.
ولقد رأينا نماذج عملية لذلك من دول غير أوروبية غيرت قوانين الأسرة والعلاقات الاجتماعية داخلها لاستحداث نصوص تتوافق مع القيم الغربية وتتضمن اعترافا بالعلاقات الجنسية خارج الزواج أو قبله وبما ينتج عنها من أطفال أو اعتراف بالمثلية.. إلى آخره، سعيا للفوز بثمار الشراكة مع الغرب.
لقد خلقت هذه الممارسات وغيرها إحساساً دفينا لدى العديد من دول وشعوب العالم بالظلم وعدم الاعتراف بالآخر، وبازدواجية المعايير فى التعامل الدولي، وبسياسة: «من ليس معنا فهو ضدنا».
وساهمت سياسات الرئيس الأمريكى السابق «ترامب» الذى رفع شعار «أمريكا أولاً» فى اذكاء هذا الاحساس، بل وانعكست هذه الممارسات على الداخل الأمريكي، بما كشف عن تناقضات وشروخ كبيرة فى البنية السياسية الداخلية للولايات المتحدة من خلال المواقف العنصرية ضد المهاجرين، والمرأة، وغيرها.
ثم جاءت الحرب الروسية- الأوكرانية لتقدم نموذجا عمليا اضافيا لكل ذلك وتساهم فى زيادة انفتاح الدول والشعوب على فكرة تغيير النظام العالمى القائم.. لكن.. كيف؟!
بقلم/الأستاذ محمد أبو الحديد
الكاتب الصحفي القدير