كشفت فى مقال الخميس الماضي، كيف ساهم سوء أداء النظام العالمى القائم على انفراد قوة دولية واحدة بقيادته، هى الولايات المتحدة ممثلة للعالم العربي، على مدى ثلاثة عقود ماضية فى جعل العالم اليوم اكثر انفتاحا من اى وقت مضي، على فكرة تغيير هذا النظام والاتجاه إلى ارساء قواعد نظام عالمى جديد متعدد الأطراف.
وشرحت كيف سعى الغرب جاهدا بقيادة الولايات المتحدة خلال تلك العقود، على فرض هيمنته على العالم وافتراض ان العالم كله يجب ان يكون غربياً اوخاضعا للغرب، او تابعا له، واستخدام حلف شمال الاطلنطى الذراع العسكرية للغرب، والدولار ــ الرمز المالى والاقتصادى له، وسلاح العقوبات خارج نطاق الامم المتحدة، كأدوات لفرض هذه الهيمنة.
وقلت إن هناك عاملا اخر ــ غير سوء الأداء الغربى ساهم فى جعل الانفتاح الدولى على فكرة تغيير النظام العالمى القائم حقيقة عملية، وهذا العامل هو الحرب الروسية الاوكرانية، وهذا هو موضوع هذه الحلقة الثانية والاخيرة فى محاولة الإجابة عن السؤال: تغيير النظام العالمي.. لماذا؟!
بداية لابد من الاشارة إلى ان التحالف الغربى لم يفكر فى اى وقت قبل بدء روسيا عمليتها العسكرية الخاصة فى اوكرانيا انه يخطط للتمدد شرقا فى اتجاه الحدود الروسية وانه يضع ضم الدول الاوروبية الواقعة على هذه الحدود، وفى مقدمتها اوكرانيا على جدول اعماله، حين تصبح هذه الدول جاهزة لذلك ومستوفاة لشروط الانضمام إليه.
ولم يفكر التحالف الغربى ايضا فى اى وقت انه قد احيط علما وبصفة رسمية من الجانب الروسى قبل بدء العملية العسكرية الروسية، بأن هذا التمدد او الزحف يشكل بالنسبة لروسيا تهديدا لامنها القومي، وانها فى حاجة إلى «ضمانات أمنية» غربية فى مواجهة هذا التهديد وانه ــ اى التحالف الغربى تجاهل الطلب الروسى ولم ترد الولايات المتحدة عليه،
رغم انه كان يمكن ان يفتح الطريق امام حل تفاوضى سلمى بين الطرفين يدرأ احتمالات الحرب ويقنن العلاقة المستقبلية بينما فى اطار حق الحلف فى التوسع وحق روسيا فى ألا يشكل هذا التوسع تهديدا لأمنها القومى وهى مقاربة ممكنة، ومازالت ممكنة لو حسنت النوايا بين الطرفين.
وحين أطلقت روسيا عمليتها العسكرية الخاصة فى اوكرانيا، كانت تستند إلى حقها المشروع فى الدفاع عن النفس الذى يكفله ميثاق الامم المتحدة فى مادته الحادية والخمسين، لأى دولة تتعرض لاعتداء خارجى أو لتهديد مباشر لأمنها القومى خاصة ان التحالف الغربى وحلف الاطلنطى الناتو ــ الممثل العسكرى له ليس كيانا صديقا لروسيا.
لكن الغرب، على المستوى الرسمى ثم من خلال كل أدواته فى الشحن الإعلامى والدعائى العالمي، صور روسيا على انها دولة معتدية، استخدمت القوة العسكرية لغزو دولة جارة مستقلة وذات سيادة، واحتلال اجزاء من اراضيها، بالمخالفة لمبادئ القانون الدولى ونصوص ميثاق الامم المتحدة، متجاهلا المقدمات التى ادت إلى ذلك حتى يفتح الطريق امام حصوله على ادانة عالمية من المجتمع الدولى لروسيا تتيح له استخدام كل ادواته العسكرية والسياسية والاقتصادية لمعاقبتها وهزيمتها.
ولأن الغرب فشل فى ادانة روسيا من خلال مجلس الامن بسبب الفيتو الروسي، فقد نقل القضية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التى تضم ما يقرب من مائتى دولة يسهل الضغط على كثير منها لحملها على التصويت ضد روسيا.
وقد كشفت نتائج التصويت فى اول ثلاثة مشروعات قرارات قدمها الغرب ضد روسيا فى الجمعية العامة فى الثانى من مارس والرابع والعشرين من مارس والسابع من ابريل عام 2022، عن حقيقة مهمة وهى انه حين يكون مشروع القرار يدور حول ادانة العملية العسكرية الروسية فإنه يحصل على اغلبية ساحقة.. بينما كلما ابتعد مشروع القرار عن هذه النقطة تراجعت هذه الاغلبية، وتزايد عدد الرافضين، سواء بالتصويت ضده، أوبالامتناع على التصويت.
وكان معنى ذلك ان العالم يدرك الحقيقة.. لكن حين يتعلق الامر بادانة عملية غزو عسكرى فإن دولا كثيرة تضع نفسها مكان اوكرانيا فتدين الغزو.. بينما فى غير هذه الحالة فإنها تضع نفسها مكان روسيا، اى فى موقع الدفاع الشرعى عن النفس.
ففى مشروع قرار الثانى من مارس والذى يدين العملية الروسية ويطالب روسيا بوقف اطلاق النار والانسحاب حصل المشروع على موافقة مائة واربعين دولة واعتراض خمس دول فقط وامتناع خمس وثلاثين دولة عن التصويت.
وفى مشروع قرار الرابع والعشرين من مارس والذى تعلق بالأزمة الانسانية التى تسببت روسيا بها فى اوكرانيا حصل على تأييد مائة واربعين دولة واعتراض نفس الدول الخمس، بينما زاد عدد الدول الممتنعة عن التصويت إلى ثمانية وثلاثين.
اما حين ابتعد مشروع قرار السابع من ابريل عن قضية الغزو او العملية العسكرية واتجه للمطالبة بتعليق عضوية روسيا فى مجلس الامم المتحدة لحقوق الانسان كعقوبة لها فقد تراجع عدد المؤيدين إلى ثلاث وتسعين دولة وتضاعف عدد الرافضين إلى اربع وعشرين دولة كما وصل عدد الممتنعين عن التصويت إلى اربع وخمسين دولة.
وفى تقديرى ان هذا التطور هو الذى اوحى لروسيا بفكرة الخروج بقضيتها من الاطار الخاص او الثنائى كدولة تدافع عن حقها المشروع فى ضمانات لامنها القومى إلى اطار اوسع يجذب انتباه اكبر عدد من دول العالم غير الغربي، وذلك بالربط ــ لأول مرة بين عمليتها العسكرية الخاصة فى اوكرانيا، وهدف تغيير النظام العالمى القائم الذى لم يكن قد سبق لها طرحه خلال الشهور الاولى من عمليتها العسكرية.
ولقد ساعدها كثيرا فى هذا الاتجاه «ضراوة» التحالف الغربى فى استخدام كل ادوات الهيمنة التى يمتلكها فى سبيل تحقيق الانتصار الميدانى على روسيا بطريقة لم يشهد المجتمع الدولى لها مثيلا.
- اصرار على مواصلة حلف الاطلنطى التمدد شرقا، بفتح الباب امام ضم دولتين جديدتين لعضويته هما السويد وفنلندا والاخيرة تربطها بروسيا حدود مشتركة تمتد لألف وثلاثمائة كيلو متر والوعد بضم اوكرانيا عندما تحقق النصر على روسيا.
- عشر حزم من العقوبات الغربية ضد روسيا طالت كل مجالات حياة الدولة والشعب الروسي.. بل وامتدت اثارها السلبية الهائلة إلى كل دول العالم، لتتحول إلى عقوبات دولية شاملة بل وارتدت بعض اثارها إلى داخل المجتمعات الاوروبية نفسها بما يحدث اضطرابات داخلية يومية بها.
- تدفق متواصل للمساعدات المالية والعسكرية والتكنولوجية والاستخباراتية من الولايات المتحدة وكل اعضاء التحالف الغربى داخل اوروبا وخارجها على اوكرانيا.. بل ومن تجمع مستحدث يحمل اسم «محبى اوكرانيا» ويضم نحو خمسين دولة.
- اصرار على هزيمة روسيا كنتيجة حتمية فى هذه الحرب والاختلاف فقط علي: هل تكون هزيمة عسكرية ميدانية فقط، ام هزيمة استراتيجية.. وإذا كانت استراتيجية.. فهل تكون مذلة لروسيا ام تترك لها بقية من ماء الوجه.. ام تحقق ما تمناه واعلنه رئيس اوكرانيا من ان العالم سيكون افضل بدون روسيا؟!
لم تدرك الولايات المتحدة وتحالفها الغربي،وهى تفعل ذلك كيف تستقبل شعوب العالم وكثير من حكوماته كل هذه الاجراءات وكيف تقيمها وتستخلص مدلولاتها، خاصة فى الدول الصغيرة. - اصرار على الدفاع عن هيمنتها على العالم وعن قيادتها له، حتى ولو ادى الامر للتضحية بمصالح بقية العالم.
- معايير مزدوجة فى التعامل مع المواقف المتشابهة.. فهل عاقب احد الولايات المتحدة على غزوها للعراق؟! هل عاقب احد حلف الاطلنطى على تدميره لليبيا واسقاط نظامها الحاكم بالقوة العسكرية!
وهل عاقب احد العديد من الدول التى دخلت بقواتها العسكرية إلى الاراضى السورية ومازالت فيها حتى الان بحجة حماية امنها القومى من تهديدات داعش او غيرها لحدودها المشتركة مع سوريا؟!
وهل احال احد كل من ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية من دول الغرب فى العراق وسوريا وليبيا وغيرها إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبتهم؟! ولا نقول ما تقوم به اسرائيل فى الاراضى الفلسطينية المحتلة؟!
لم تدرك الولايات المتحدة وتحالفها الغربى ان شعوب الدول الصغيرة بدأت تتساءل: إذا كان الغرب يفعل ذلك مع القوة العسكرية الثانية فى العالم وهى روسيا.. فما هو مصيرنا لو قادنا القدر إلى مقصلته؟!
لم تدرك الولايات المتحدة وتحالفها الغربى انها اثبتت فشل هذا التحالف عمليا وهوفى اوج وحدته وقوته فى تجربة الحرب فى اوكرانيا فمليارات اكثر من ثلاثين دولة اوروبية وغير اوروبية ومخزونات ذخائرها ومعداتها العسكرية جميعا فضلا عن «تكتيف» العدو الروسى بالعقوبات لم تنجح حتى الان لا فى هزيمة روسيا، ولا فى كسر شوكتها.. ولا حتى فى اجبارها على وقف الحرب.
الحرب الروسية الاوكرانية جعلت العالم يفكر بطريقة اخري، وينظر إلى النظام العالمى القائم بمنظور مختلف ويتطلع إلى المستقبل وهو يحلم بالتغير
بقلم/الأستاذ محمد أبو الحديد
الكاتب الصحفي القدير