كتبه / دكتور على قاسم
أستاذ الاقتصاد الإسلامي جامعة المنيا
بداية فإن الوقف هو تحبيس لأصل الشيء، وتسبيل لثمرته، أي أنه حبس العين عن التمليكِ، والتصدق بالمنفعة في سُبل البر المتعددة؛ ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى.
وبلغة أهل الاقتصاد فإن الوقف هو تحويل لجزء من الدخول والثروات الخاصة إلى موارد تكافلية دائمة تخصص منافعها من سلع وخدمات وعوائد لتلبية احتياجات الفئات المستفيدة، مما يسهم في زيادة القدرات الإنتاجية اللازمة لنمو القطاع التكافلي الخيري الذي يعد أساس الاقتصاد الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي.
وتعتمد آلية الوقف على المحافظة على رأس المال، وصرف الغلة والربح والثمرة للموقوف عليهم في مختلف وجوه الخير والمصالح العامة، وهذا هو المنطلق الأساسي للاستثمار المالي والاقتصادي لأموال الأوقاف.
وبهذا المعني فإنه يحدث حركة اقتصادية إيجابية للثروات والدخول؛ لضمان الوصول إلى توزيع توازني اختياري عادل بين أفراد المجتمع وطبقاته.
ويمثل الوقف اليوم ركيزة أساسية من ركائز التنمية المستدامة، حيث إنه يقوم على أساس الديمومة والاستمرار، ويسعى ـ طواعية ـ إلى استدراك جوانب الخلل في التوزيع والتملك، وما ينجم عنهما من قصور في إشباع الحاجات الأساسية والثانوية للمجتمع.
ويمكن اعتبار الوقف من أهم المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التي ساهمت على مر العصور والأقطار في بناء الحضارة الإنسانية والاجتماعية في المجتمعات فهو يعد بمثابة مؤسسة اقتصادية ضمن مؤسسات الاقتصاد الإسلامي، ومن ثم فإن لها دورًا لا يستهان به في حل المشكلات الاقتصادية للمجتمعات العربية والإسلامية، من خلال تقليله لمشكلة الفقر، وسوء توزيع الدخل بين فئات المجتمع، فضلًا عن استثماراته الضخمة وإيراداته الكبيرة التي أحدثت تراكمًا رأسماليًا كبيرًا في بعض الأحيان.
وإذا كان الوقف الإسلامي بهذه القوة التنموية لا بد إذن من تفعيل هذا الدور بصورة أكبر في السنوات المقبلة حتى يقوم هذا النظام التكافلي بدوره المنشود بوصفه مؤسسة أهلية مستقلة جنبًا إلى جنب مع مؤسسات الدولة الأخرى لا سيما أن المتتبع لأثر الوقف في المجتمع الإسلامي ـ عبر تاريخ الأمة الطويل ـ يمكن تلخيص دوره التنموي في تحويل عمل الخير من مبادرات فردية إلى مؤسسات مستدامة كالأوقاف المعاصرة, وضمان الرعاية الاجتماعية المادية من متطلبات الحياة المختلفة من مأوى وملبس وعلاج ومياه وغيرها.
وبالنظر إلى الوقف الإسلامي ـ في مضمونه وحقيقته المعاصرة في بلادنا ـ نجد أنه عملية استثمارية كاملة الأركان؛ لأنه تنازل من جهة الواقف عن استهلاك ما يملك في سبيل منافع عامة للمجتمع، كالتعليم، والصحة، وإنشاء الدور المختلفة، وتنمية المجتمع، فيبقى رأس المال محفوظًا بل مضافًا إليه الربح الباقي؛ ليؤدي إلى كفاية الإنسان وغناه، وعلى ضوء ذلك فإن الوقف في حقيقته استثمار، ومن حيث الحفاظ على الأصل، ويكون الاستهلاك للناتج والثمرة والربح والريع
فالوقف مشروع استثماري يتمثل في وجود رأس مال ثابت (مال الوقف) يتم استثماره وتحصيل الغلة وإنفاقها في الوجوه الموقوف عليها، ولذلك لابد من وجود هيكل تنظيمي له في صورة مؤسسة يقوم على إدارتها إدارة عليا وإدارة تنفيذية مهنية متخصصة في نوع الاستثمار.
كما أنه عملية تنموية بحكم مفهومه، فهو يتضمن بناء الثروة الإنتاجية، من خلال عملية استثمار حاضرة، تنظر بعين الإحسان للأجيال القادمة، وتقوم على التضحية الآنية بفرصة استهلاكية، مقابل زيادة الثروة الإنتاجية الاجتماعية، وتعظيمها، مما يعود بخيراتها على مستقبل حياة المجتمع.
والمطلوب الآن ـ كما هو نهج الدولة المصرية ـ الحفاظ على أصول الوقف، وعمارته فهو أمر أساسي ومهم، لاستمراريته في الثواب والعطاء والنفع، ولذلك قرر الفقهاء وجوب البدء بعمارة الوقف، وصيانته من غلته وثمرته، وما بقي فيدفع للموقوف عليهم؛ لأن عمارة الوقف وإصلاحه واستغلاله بالوجه الأكمل يعني استثماره وتنميته، وهو المطلوب شرعاً، فالهدف من الوقف ومقصده الأساسي هو استثمار المنفعة، والثمرة، والغلة.
كما أن الهدف الاقتصادي المباشر لاستثمار أموال الأوقاف هو تأمين الدخل المرتفع بقدر الإمكان؛ لصرفه في مواطنه المحددة، دون التهاون في الأصل والعين الموقوفة، وهذا يوجب أيضاً التوسع في الاستغلال وإعادة الاستثمار، وذلك بالبحث عن أفضل الطرق المشروعة التي تؤمن ذلك، ليتم صرفه على جهات الخير الموقوف عليها، ولحفظ قسم منها لعمارة الأصل، أو إصلاحه، أو ترميمه، لضمان بقائه، واستمراره للعطاء، فالحاجة داعية إلى استثمار أموال الوقف؛ حتى لا تأكلها النفقات والمصاريف.
ومن ثم فإن القصد من استثمار الموقوف هو استغلاله واستعماله بطريقة تدر ريعاً إضافياً يستفيد منه الوقف والموقوف عليه، وذلك لأمرين:
أولاً: حِمَايَة أَمْوَال الوَقْف وأعيانه: والمساعدة في بناء مُؤَسَّسة من الثقة، والشَفَّافِيَّة، والمساءلة اللازمة؛ لتشجيع الاِسْتِثْمَار عَلَى المدى الطويل، والاستقرار المالي، ونزاهة العمل، والذي يؤدي بالنتيجة إلى تَحْقِيق النمو المستدام.
ثانيًا: تنمية واِسْتِثْمَار الأَوْقَاف: وذلك عن طريق حِمَايَة أعيان الوَقْف وأَمْوَاله، من خلال حسن تثميرها في أَدَوَات منخفضة المَخَاطِر، والإِدَارَة ذات الكفاءة والفَعَّالَة للأصول الوَقْفية عند التعاقد مع الغير، لاِسْتِثْمَارها من خلال إصدار ضَوَابِط تفصيلية، والابتعاد عن الأَدَوَات الاِسْتِثْمَارية ذات المَخَاطِر التي لا تتناسب ومَقَاصِد الوَقْف، أو شُرُوط الوَاقِفين
كل ما سبق من معطيات يدفعنا دفعا إلى السرعة في تحديث المؤسسة الوقفية المعاصرة، وتمكينها من مواكبة التطورات الجديدة التي تميز الحياة الاقتصادية المعاصرة في عالم تعددت فيه المنتجات المالية، سواء تعلق الأمر بتعبئة الموارد أو بتوظيفها؛ بغية إرساء مفاهيم جديدة للعمل الوقفي بما يتفق مع الأحكام الشرعية ومتطلبات التنمية بمفهومها المعاصر.
فضلا عن ضرورة العمل على الحوكمة الشاملة للأوقاف، بغية الاستخدام الأمثل لمواردها، وتَحْقِيق النمو المستدا