كنت أظن أنني، بعد ختام المقالين اللذين كتبتهما الأسبوع الماضى والأسبوع الذى سبقه وطرحت عنوانهما فى شكل سؤال: تغيير النظام العالمي.. لماذا؟! أننى بذلك قد أجبت عن السؤال، ولو بصورة مختصرة وشديدة التركيز، ومن وجهة نظرى الشخصية، وبالتالي، لا يوجد ما يدعو للعودة إلى الموضوع، خاصة فى ظل مستجدات محلية وإقليمية بالغة الأهمية، تستحق الكتابة عنها.
لكن «تدوينة» سجلها أحد كبار قادة الاتحاد الأوروبى على صفحته، ونقلتها عنه صحف العالم ، أعادتنى إلى السؤال عن أسباب تغيير النظام العالمي، أو بالتحديد أسباب تزايد انفتاح العالم على فكرة التغيير، والتى كنت حصرتها فى سببين، أولهما: سوء أداء النظام العالمى القائم وسعيه للهيمنة المنفردة على العالم وتهميش كل ما دونه ومن دونه، وثانيهما: الحرب الروسية- الأوكرانية.
صاحب التدوينة التى أتحدث عنها هو «جوزيب بوريل» مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى وفيها يقترب كثيرا مما قلته فى المقالين.
كتب «بوريل» فى تدوينته «ان النزاع فى أوكرانيا كشف خلافات الغرب مع الأجزاء الأخرى من العالم.. وان الفجوة بين الغرب وبقية العالم أخذت تتجاوز نطاق الحرب.. وتكشف- على العكس من ذلك- أنها نتيجة للاحباط العميق، أو الغضب- إذا قلنا الحق- بسبب إدارة الغرب السيئة وغير الهاوية».
هذا أول اقتراب موضوعى من جوهر الأزمة التى يمر بها النظام العالمى القائم من أحد قادة الاتحاد الأوروبى المختصين بالسياسة الخارجية للاتحاد، يقدم من خلالها تشخيصاً واضحاً للأزمة، وتحديداً للسببين اللذين ذكرتهما فى مقالى «الأسبوعين الماضيين»، وهما سوء أداء النظام والحرب الأوكرانية.
ولم اقرأ خلال اليومين الماضيين تعليقاً أو تعقيباً من الولايات المتحدة على هذا التشخيص الذى يختلف بالتأكيد فى رؤيته مع وجهة النظر الأمريكية التى تتشبث دائماً بأنها على صواب ويعكس- بالتالي- أحد مظاهر الاختلاف داخل التحالف الغربى بين طرفيه الرئيسيين، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
على العكس من ذلك، فقد وجدت فى خطاب الرئيس الروسى «بوتين» الذى ألقاه أول أمس- الثلاثاء- فى احتفالات الكرملين بيوم الانتصار على النازية فى الحرب العالمية الثانية، ما يمكن اعتباره اقترابا من تدوينة «بوريل» فقد هاجم «بوتين» ما أسماه «النخب العولمية الغربية» واتهمها بأنها تقوم بتحريض الشعوب ضد بعضها البعض وتقسيم المجتمعات وإثارة النزاعات الدموية.
هكذا تتقارب وجهات النظر فى تقييم أداء النظام العالمى القائم، ما بين تيار «النقد الذاتي» للنظام من داخله والذى يمكن اعتبار تدوينة «بوريل» تعبيراً عنه، وما بين الهجوم على النظام العالمى من خارجه كما فعل بوتين.
وبما أننا عدنا إلى الحديث عن «تغيير النظام العالمي.. لماذا؟!» فلا بأس من خاتمة نسجل فيها عدداً من «المحددات» التى لا ينبغى تجاهلها.. ويمكن تلخيصها فى هذه النقاط:
1- عجلة التحول إلى نظام عالمى جديد بدأت فى الدوران، وبدأت تتخلق معها- بالتدريج- إرادة سياسية عالمية، شعبية قبل أن تكون حكومية أو رسمية، داعمة لهذا التحول وداعية إليه.
2- لن يتم التحول بسهولة.. بل من خلال صراع شامل بكل الأدوات، سياسية وعسكرية واقتصادية، وقد يصل الأمر بهذا الصراع إلى حافة حرب عالمية.. هذا ما ينبغى توقعه، لأن الغرب، الذى يقود النظام القائم، لن يستسلم بسهولة لتيار التغيير، ولن يفرط فى هيمنته على العالم.. وتبدو الجبهتان القائدتان لهذا الصراع، وهما الغرب والشرق ممثلا فى الصين وروسيا، فى حالة «حشد» الآن.. وسباق على انشاء تحالفات وشراكات جديدة لتعزيز موقف كل منهما استعداداً للحظة حاسمة متوقعة.
3- سيكون العنصر الفاصل والحاسم فى هذا الصراع، هو حجم ومساحة «الفجوة» لدى كل من الطرفين بين الرغبة و»القدرة» فى الدفاع عن «الحلم» أو التشبث بالأمر الواقع.
4- تشكيل أى نظام عالمى لا يتم بين يوم وليلة.. بل يحتاج بعد حسم الصراع إلى سنوات وسنوات لبلورة شكل وأدوات النظام الجديد، ولدينا مثال وهو ان الحرب العالمية الثانية انتهت عام 1945 بانتصار أحد طرفيها وهو «الحلفاء» على الطرف الآخر وهو «المحور» لكن شكل النظام العالمى الذى نتج عنها، لم تكتمل ملامحه إلا خلال عقد كامل من الزمن، ما بين بلورة تحالف أو معسكر غربى بقيادة الولايات المتحدة وانشاء حلف شمال الأطلنطي- الناتو- عام 1949 كذراع عسكرية لهذا التحالف وبين بلورة تحالف أو معسكر شرقى بقيادة الاتحاد السوفيتى وانشاء ذراعه العسكرية ممثلا فى حلف وارسو عام 1955 مرورا بانشاء المؤسسات المالية والنقدية الدولية كأدوات اقتصادية لهذا النظام، وهى أيضا نفس الفترة تقريباً التى أنشئت خلالها منظمة الأمم المتحدة وعدد من المنظمات الإقليمية وفى مقدمتها جامعة الدول العربية.
5- لن يعنى ظهور نظام عالمى جديد- بالضرورة- أفول نجم الولايات المتحدة، أو سقوط الدولار من عرشه.. لا أحد يريد ذلك أو يدعو إليه، بمن فيهم أشد أعداء الغرب.. فالعالم لا يرفض الحضارة الغربية، ولا من يمثلها، سواء الولايات المتحدة أو أوروبا.. العالم يرفض فقط، وحصريا، هيمنة طرف واحد على مقدرات العالم، خاصة وأن هذه الهيمنة بدأت فى التوحش، وانكارحق القوى الصاعدة فى أن تكون جزءاً من إدارة النظام العالمي.
باختصار.. العالم يسعى لنظام عالمى متعدد الأقطاب.. منصف، يعترف بالآخر، ويطبق مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان وأهمها حق الشعوب فى اختيار أنظمتها وتحديد توجهاتها الداخلية انطلاقا من قيمها وأصولها الحضارية، وتحديد توجهاتها الخارجية انطلاقا من مصالحها الوطنية والقومية.
6- وأخيراً علينا أن ندرك من الآن، أن أى نظام عالمى جديد لن يحوّل العالم إلى «مدينة فاضلة» ولن يمنحنا سلاماً دائماً خاليا من منغصات الصراعات.. فلم يحدث ذلك فى أى حقبة عالمية، ولن يحدث فى المستقبل، لأن التنافس والصراع احدى سنن الحياة البشرية.. لكنه يمكن أن يمنحنا- على الأقل- عالما أكثر اهتماماً بالتعاون وبتعزيز «المشتركات» بين أطرافه، والتعامل المرن مع نقاط الخلاف والتناقضات.
من أجندة الأسبوع
> البيت الأبيض الأمريكى ينتقد قرار جامعة الدول العربية الذى صدر بالإجماع عن وزراء الخارجية العرب بعودة سوريا إلى مقعدها بالجامعة، ويعرب المتحدث الرسمى باسم الخارجية الأمريكية عن أن واشنطن لا ترى أن سوريا تستحق إعادتها لجامعة الدول العربية فى الوقت الحاضر.
ورداً على هذا الموقف الجماعى العربى بصورة عملية، أعلنت الولايات المتحدة أنها لن تقوم بتطبيع علاقاتها مع نظام الرئيس السورى بشار الأسد، وأن عقوباتها التى فرضتها على سوريا خلال 12 سنة ماضية ستستمر كما هى بالكامل!!
تعليق: هذا نموذج عملى صارخ يجسد ببساطة أحد دوافع طرح السؤال: تغيير النظام العالمي.. لماذا؟!
بقلم/الأستاذ محمد أبو الحديد
الكاتب الصحفي القدير