كلما فكرت فى التوقف ـ ولو مؤقتاً ـ عن متابعة تطورات الحرب الروسية الأوكرانية والكتابة عنها، حتى أتفرغ لغيرها من القضايا والأحداث،
وما أكثرها، تعيدنى هذه الحرب ـ مضطراً ـ إلى ساحتها بسبب ما تشهده من تداعيات خطيرة يصعب إغفالها، حتى بدت كتاباتى عن هذه الحرب أشبه «بالتحليلات الإخبارية» التى كنا ننشرها فى الصفحات الأولى من صحفنا لتصدر مع وقوع حدث مهم فى اليوم نفسه.
أمس الأول ـ الثلاثاء ـ تعرضت العاصمة الروسية ـ موسكو ـ لهجوم جوى أوكراني، استخدم فيه الجيش الأوكرانى ثمانى طائرات مسيرة، ووصفته وكالات الأنباء العالمية بأنه «غير مسبوق» و»الأول من نوعه» بهذا العدد من المسيرات، قياساً إلى الهجوم السابق الذى استهدف مبنى الكرملين فى موسكو، وتم بمسيرتين فقط، واتهمت روسيا المخابرات الأوكرانية بتدبيره بهدف اغتيال الرئيس بوتين.
وفى الشهرين الماضيين، قامت جماعات محدودة من الأفراد، قالت روسيا إنها جماعات أوكرانية، وقالت أوكرانيا بل هى من المعارضين الروس للرئيس بوتين، بعمليات تخريبية محدودة داخل الأراضى الروسية المتاخمة لحدود أوكرانيا،
وليس فى موسكو العاصمة.الكرملين، من جانبه وصف الهجوم الأوكرانى بأنه رد على ضربات روسية وجهتها موسكو للعاصمة الأوكرانية «كييف» قبلها بيوم واحد، ودمرت روسيا خلالها مقرات قالت إنها «لصنع القرار» ومن بينها مقر المخابرات العسكرية الأوكرانية.
قال الكرملين أيضاً، إن الدفاعات الجوية حول موسكو أسقطت ودمرت المسيرات الأوكرانية الثماني، وأن الهجوم الأوكرانى لم ينجح إلا فى إحداث بعض الأضرار فى مبان، ولم تحدث خسائر بشرية.
هذا كله صحيح.. ولكن..
روسيا دولة كبري، وقوة عسكرية عظمي، إن لم يكن بأسلحة جيشها التقليدية، فبقوة الردع النووية التى تملكها وتتفوق فيها على غيرها.
وإذا أخذنا بمعيار ميثاق الأمم المتحدة فى تحديد القوى الكبرى فى العالم بخمس دول صاحبة العضوية الدائمة بمجلس الأمن، وحق الفيتو، وهى أمريكا وفرنسا وبريطانيا من الغرب وروسيا والصين من الشرق،
فإن تعرض عاصمة إحدى هذه الدول وأراضيها لهجمات عسكرية من دولة أخري، كما حدث لروسيا وعاصمتها الآن، يعد الحدث الأول من نوعه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أى منذ ما يقرب من ثمانين عاماً.
الاستثناء الوحيد فى التاريخ هو أحداث الحادى عشر من سبتمبر التى تعرضت لها أمريكا قبل اثنين وعشرين عاماً وتمت بثلاث طائرات مدنية وفى مدينتين هما نيويورك والعاصمة واشنطن، واستهدفت برجى مركز التجارة العالمى فى المدينة الأولي،
ومبنى وزارة الدفاع ـ البنتاجون ـ فى العاصمة وأسفرت عن ثلاثة آلاف قتيل وجريح. واتهمت أمريكا تنظيم القاعدة بتدبيرها.
هذا لا يعنى أن هذه الدول لم تخض حروباً طوال هذه العقود.. جميعها بلا استثناء خاضت حروباً، لكن فى مناطق وقارات أخرى خارج أراضيها.. أمريكا فى فيتنام.. روسيا فى أفغانستان.. فرنسا وبريطانيا فى العدوان الثلاثى على مصر أو ما أطلق عليه فى الغرب مصطلح «حرب السويس».. والصين فى الهند الصينية، ولذلك لم تتعرض أراضى وعواصم هذه الدول لانتهاكات أو هجمات عسكرية.
التوصيف الروسى للهجوم الأوكرانى يوم الثلاثاء الماضى بأنه رد من «كييف» على ضربة روسية سبقتها بيوم ـ رغم صحته ـ وأنه تم تدمير المسيرات المهاجمة، وأنه لا خسائر بشرية بل بعض أضرار مادية فى المباني، هذا التوصيف لا يرقى لخطورة الحدث،
بل هو أشبه بـ «عزاء النفس» بل ويتضمن اعترافاً بأن القوة العسكرية الأوكرانية المدعومة من الغرب بالطبع، أصبحت فى مستوى القوة العسكرية الروسية، وأنها قادرة على أن ترد الضربة بضربة.. والعاصمة بعاصمة،
وأن وصول المسيرات الأوكرانية إلى موسكو، أصبح فى نفس سهولة وصول المسيرات الروسية إلى كييف، والتدمير فى الحالتين متبادل.
للدول الكبرى والقوى العسكرية العظمى مقاييس أخرى فى تقييم مثل هذا الحدث.. فأياً كان حجم الدعم العسكرى الغربى لأوكرانيا ـ وهو كبير وغير مسبوق بالطبع ـ فإن العالم ينظر إلى روسيا نظرته لثانى قوة عسكرية،
وأن لأراضيها حصانة، ولجيشها كبرياء عسكرى وهجوم الثلاثاء الماضى ينتهك الحصانة، ويمس الكبرياء، ولا يخضع للمقاييس العالمية بأن «الحرب كر وفر».. ولا للتقييم بـ «القطعة» بل بالنتائج النهائية وأن «من يضحك أخيراً يضحك كثيراً».
وربما يكون ذلك كله موجوداً وقائماً فى «خلفية التوصيف الروسي» وأن التحليل النهائى لهذا الهجوم فى الأوساط السياسية والعسكرية فى موسكو يضع فى اعتباره هيبة الدولة وحصانة التراب الوطنى وكبرياء العسكرية الروسية.
وربما أيضاً يظهر ذلك اليوم أو غداً أو بعد أسبوع فى طبيعة الرد الروسى على هذا الهجوم غير المسبوق.
والعقائد السياسية والعسكرية تختلف بين الدول.
هناك دول تكتفى فى مثل هذه الحالات بالرد «الموضعي» على العدو المباشر.. أى فى الحالة الروسية يكون رد موسكو هو ضربة تدميرية ضد كييف أشد من سابقتها، تستبيح مزيداً من مراكز القيادة وصنع القرار بما فيها مقر الرئيس الأوكراني.
وهناك دول تفضل فى مثل هذه الحالات، ليس فقط ردع العدو المباشر، بل توجيه رسالة تحذيرية عملية، حادة وجادة لمن يدعمه ويقف وراءه، وهو هنا الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي.
ولقد ألمحت روسيا هذا الأسبوع إلى أنها تتعقب مصادر ومسارات الأسلحة الغربية الجديدة والمتطورة التى تصل إلى أوكرانيا لتدميرها بعد أن كانت تنتظر إلى ما بعد وصولها واستخدامها من جانب الجيش الأوكراني.
والروس يفكرون بالطبع فى رد غير مباشر على الدعم الأمريكى ولا يقتنعون بتصريحات «بلينكن» وزير الخارجية الأمريكى التى يطلقها عقب كل عملية للجيش الأوكرانى داخل حدود روسيا، ويؤكد فيها أن بلاده لا توافق على استخدام أوكرانيا للأسلحة الغربية فى هذه العمليات، ما لم يتضمن ذلك عقوبة أمريكية على أوكرانيا فى حالة مخالفتها لهذا الشرط.
للدبلوماسى الأمريكى المخضرم والأشهر هنرى كيسنجر الذى احتفل بعيد ميلاده المئوى منذ أيام نظرية معروفة تشجع الوصول بأى صراع عسكرى بين طرفين إلى ذروته أو إلى ما يطلق عليه «حافة الهاوية» كأفضل سبيل لإجبار الطرفين على الجلوس إلى مائدة مفاوضات.
ويبدو أننا سنشهد خلال الأيام القادمة تصعيداً متزايداً ومتبادلاً فى الحرب الروسية الأوكرانية يتجاوز خطوطاً حمراء عديدة فى الطريق إلى حافة الهاوية فإما أن يلتقطه العالم عندها إلى مائدة مفاوضات أو نسقط جميعاً معه فى الهاوية.
بقلم/الأستاذ محمد أبو الحديد
الكاتب الصحفي القدير