أمس الأول- الثلاثاء- أعلن حلف شمال الأطلنطي- الناتو- الذي تقوده الولايات المتحدة في أوروبا، انضمام فنلندة رسميا إليه، لتكون العضو الحادي والثلاثين به، وان السويد سوف تنضم أيضا ولكن فيما بعد.
استبق الحلف بذلك اسوأ السيناريوهات- من وجهة نظره- المحتمل ان تسفر عنها الحرب الروسية- الأوكرانية وهو هزيمة أوكرانيا أو التوصل إلى تسوية تمنع انضمامها لعضوية الحلف، فجاء بفنلندة لتكون البديل.
كيف؟! لأن فنلندة هي ثاني دولة أوروبية تملك أطول حدود مشتركة مع روسيا بعد أوكرانيا، أي ان انضمامها يضع حلف الأطلنطي على البوابة الشمالية الغربية لروسيا، مثلما يضع انضمام أوكرانيا في أي وقت للحلف، وجود الحلف على البوابة الجنوبية الغربية لروسيا.
وبانضمام فنلندة تكون- رسميا– الحلقة الرابعة من حلقات الوجود الأطلنطي على خطوط التماس المباشرة مع روسيا بعد جورجيا عضو الحلف على الحدود الجنوبية الشرقية لروسيا، وكل من لاتفيا واستونيا على حدودها الغربية.
وفيما يشبه لعبة الشطرنج، كان الرئيس الروسي بوتين جاهزا برد استباقي على الخطوة الأطلنطية يبطل مفعولها وهو ما كان مفاجأة سيئة للغرب أثارت ردود فعل حادة.
فقبل يومين من انضمام فنلندة للأطلنطي أعلن بوتين انه اتفق مع جارته وحليفته بيلاروسيا علي نشر وتخزين أسلحة نووية تكتيكية علي أراضيها وانه يجري حاليا بناء منشأة التخزين لتصبح جاهزة في يوليو القادم.
وبيلاروسيا، بوضعها الجغرافي هي- لمن لا يعلم- رأس الحربة وخط الدفاع الأول والهجوم إن لزم الأمر- لروسيا في صراعها مع الغرب.
بيلاروسيا تقع مباشرة على حدود لاتفيا ولتوانيا شمالاً، وبولنده غربا، والدول الثلاث أعضاء في حلف الأطلنطي كما ترتبط بحدود مشتركة مع أوكرانيا جنوبا.
ومعني ذلك ان الرئيس الروسي ينقل أسلحته النووية التكتيكية خطوات كبيرة إلى الأمام ليدق بها أبواب حلف الأطلنطي في أضعف حلقاته دون أن يطلق رصاصة واحدة.
وقال بوتين انه لا يفعل شيئا جديداً فالولايات المتحدة تنشر أسلحة نووية في أراضي حلفائها في أوروبا وبيلاروسيا هي حليفنا.
وقال رئيس بيلاروسيا ان بلاده طلبت استضافة الأسلحة النووية الروسية على أراضيها لمواجهة التهديدات التي يمثلها تمدد حلف الأطلنطي على أمنها القومي.
وفي مواجهة حالة الهياج التي انتابت العواصم الكبري لأعضاء حلف الأطلنطي، واشنطن ولندن وباريس وبرلين، قال المتحدث الرسمي باسم الكرملين: نحن ماضون في خططنا بصرف النظر عن ردود أفعال الآخرين.
والخطوة الروسية تمثل استخداما نموذجيا لمفهوم الردع النووي والتحرك للأمام وليس للخلف.
والغرب يدرس خيار فرض عقوبات جديدة على بيلاروسيا وينتظر التحقق من تنفيذ الخطوة الروسية علي الأرض، ولكن سلاح العقوبات قد صدأ من كثرة الإفراط في استعماله، وضاق العالم من مستخدميه.
وسوف يكون للخطوة الروسية بالتأكيد تأثيرها الميداني في ساحة الحرب على الأراضي الأوكرانية، لأنها تحمل- ضمنيا- احتمال ان تصبح بيلاروسيا في أي لحظة طرفا مباشرا في الحرب.
والحرب ستطول، وهذا هو الاحتمال الأرجح الذي يقف وراء تحركات السلام والتعلق بالمبادرة الصينية في مواجهة الخطة الأوكرانية.وكلما طالت الحرب ابتعدت عن نقطة بدايتها.
لنا مثلا ان نتخيل ان مطلب روسيا قبل ان تبدأ عملياتها العسكرية الخاصة كان الحصول على ضمانات أمنية من الغرب، بعدم ضم أوكرانيا لحلف الأطلنطي أو إقامة قواعد للحلف علي أراضيها.
عدم الرد على هذا المطلب السلمي، ومضي الحلف في خططه، حول المطلب السلمي إلي عملية عسكرية هدفها نزع سلاح أوكرانيا بالقوة وتحييدها.
إطالة الحرب لمدة عام، حول هذا الهدف، من هدف يتعلق مباشرة بأوكرانيا إلي هدف عالمي هو تغيير النظام العالمي القائم علي هيمنة قطب أوحد، وإقامة نظام عالمي جديد منصف متعدد الأقطاب وعلي قدم المساواة.
هذا فيما يتعلق بتأثير إطالة أمد الحرب على نقطة بدايتها، فلم تعد القضية قضية ضمانات أمنية لروسيا أو انضمام أوكرانيا أو عدم انضمامها لحلف الأطلنطي.. بل قضية الاختلال الكبير في النظام العالمي القائم وضرورة تصحيحه وأن تتبوأ كل قوة عسكرية أو اقتصادية مكانتها اللائقة فيه.
وكما يحدث التغيير في الأهداف يحدث التغيير في الأطراف أيضا.
هناك سباق الآن على امتداد مساحة الكرة الأرضية، أرضا وبحرا وجوا، بين الشرق ممثلا في روسيا والصين والغرب ممثلا في أمريكا وأوروبا لتعزيز التحالفات القائمة لكل من الطرفين، ولبناء تحالفات وشراكات جديدة عسكرية واقتصادية.
هناك طوفان من الزيارات والجولات المكوكية لمسئولين غربيين أو شرقيين يجتاح دول في قارات أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، لم تكن تحظي بمثل هذا الاهتمام من قبل.
تغييرات واسعة في سوق الطاقة، وسوق الغذاء العالميين ومحاولات لإزاحة الدولار من عرش العملات العالمية واعتماد العملات الوطنية بديلا في المعاملات التجارية باعتبار الدولار رمزا للهيمنة الأمريكية على العالم والنظام العالمي.
هناك تغييرات في العقائد القتالية وفي الإستراتيجيات السياسية على الجانبين وفي تحديد مصادر التهديد.
هناك دراسات دقيقة تجري على أنظمة التسلح المختلفة من واقع ما تم تجربته منها في ساحة الحرب في أوكرانيا وبحث امكانيات تطويرها.
أي أن إطالة الحرب في أوكرانيا، خلقت الفرصة لانطلاق الخطوات والإجراءات اللازمة لإعادة تشكيل النظام العالمي.
لقد ألقت العملية العسكرية الروسية حجرا في مياه النظام العالمي القائم، فأحدثت ما يحدثه الحجر في المياه من دوائر تتسع وتتسع ابتعاداً عن نقطة الحدث.
وما كان ذلك ليحدث، لو أن هذه العملية العسكرية قد انتهت بعد أسبوع أو أسبوعين، حتى لو كانت حققت الهدف المباشر منها في أوكرانيا.
وأغلب الظن انه حتى لو تم حسم الحرب في أوكرانيا، سواء بانتصار هذا الطرف أو ذاك، في الميدان أو بتسوية سياسية على مائدة المفاوضات،
فإن قضية تغيير النظام العالمي القائم ستظل هدفا قائما.. لقد أصبحت في يد الشعوب.. وما تحقق من خطوات على الطريق سيشجع على الاستمرار
ويكفي ان رئيس الأركان المشتركة للجيوش الأمريكية قد أعلن الأسبوع الماضي في تصريح نادر أنهم يدرسون السيناريوهات المختلفة وتغيير النظام العالمي القائم
بقلم/الأستاذ محمد أبو الحديد
الكاتب الصحفي القدير