احتجنا إلى سنة كاملة، لإعداد الساحة السياسية الداخلية لإجراء حوار سياسي وطني شامل، تشارك فيه كل الأحزاب والقوي السياسية والشبابية والنسائية دون استبعاد أي طرف إلا ما ينص عليه القانون أو ينعقد عليه الإجماع الشعبي
فالدعوة إلى الحوار، أطلقها الرئيس في الأسبوع الأخير من شهر رمضان الماضي، خلال إفطار الأسرة المصرية وتحدد الآن موعد بدء جلسات الحوار في الثالث من شهر مايو القادم، أي بعد انتهاء شهر رمضان الحالي وعطلات الأعياد
لابد أن المهمة كانت صعبة إلى الحد الذي احتاج إلى هذه المدة الزمنية الطويلة نسبياً في دولة وطنية نظامية مستقرة مثل مصر، لا تعاني انقسامات وصراعات سياسية أو عرفية حادة تحول دون الوصول الميسور والآمن إلى قاعدة مشتركة من التوافق على الثوابت اللازمة لانطلاق الحوار طول المدة الزمنية هذا،
أثار التساؤل لدي البعض كيف يحدث هذا لدولة نجحت باقتدار خلال هذه المدة وبشهادة العالم كله، في تنظيم وعقد واستضافة أكبر دورة للمؤتمر العالمي للتغيرات المناخية، شارك فيه قادة العالم ووفود دولهم الرسمية وكل المنظمات الدولية ذات الصلة وعلى رأسها الأسم المتحدة التي يحمل المؤتمر اسمها، ومؤسسات التمويل الدولية، فضلاً عن وفود وممثلي مئات من منظمات المجتمع الدولي المعنية بالمناخ والبيئة من كل دول العالم
بل إن ما أثار التساؤل أكثر، هو كيف حين أرادت أو احتاجت الدولة لعقد مؤتمر اقتصادي وطني، لم يستغرق الأمر في الإعداد له وانعقاده وإعلان نتائجه أكثر من أسابيع معدودة،
بل وكانت الأوراق المقدمة له عبارة عن خلاصة ما توصل إليه مجلس أمناء الحوار الوطني في الشق الاقتصادي، أي جزء من مخرجات الحوار التي أنجزها المجلس بالفعل وقد وصل اندهاش البعض إلي التساؤل هل الدولة جادة فعلاً في إجراء وإدارة حوار وطني حقيقي؟
وإذا كانت جادة.. فلم التأخير الواقع أن الأمر كان غير ذلك تماماً لقد نزلت دعوة الحوار السياسي الوطني، حين أطلقها الرئيس، نزول المطر علي أرض جرداء مقفرة، تعاني التصحر والبوار
هذه هي البيئة السياسية الحقيقية التي كنا نمتلكها مائة وستة أحزاب تحمل جميعاً صفة سياسية دون أن تمارس من السياسة شيئاً بل ما كان فاعلاً منها لا يزيد عدده علي أصابع اليد الواحدة، والبقية مجهولة للمواطن، بلا جذور ضاربة في عمق الأرض،
ولا فروع ممتدة فوق الأرض السنوات الثماني الأخيرة كانت سنوات حروب حقيقية في الداخل والخارج سنوات كفاح وعمل وعرق ودماء حرب ضد الإرهاب، وحرب من أجل التنمية، وحرب من أجل بناء دولة جديدة عصرية علي مستوي المنافسة لكل ذلك من الداخل والخارج،
وزيادة الإنتاج الصناعي والزراعي، ومضاعفة التصدير، والارتقاء بكل الخدمات في الصحة والتعليم والثقافة والإبداع والحماية الاجتماعية إلي آخره كان سنوات سباق حقيقي من أجل تحويل حلم كبير إلي واقع حي علي الأرض سنوات علا فيها صوت الإنجاز والفعل علي أي صوت آخر فقد كان مطلوباً أن يتم كل ذلك في أقصر مدة زمنية ممكنة، وبأقل تكلفة متاحة،
وأعلي مستوي من الجودة يطابق المعايير العالمية لم يكن الحوار السياسي غائباً عن أجندة هذه السنوات بل كان حاضراً، وبقوة، ولكن حين تكون صورة وملامح مصر الجديدة، أو الجمهورية الجديدة قد قاربت علي الاكتمال، وحين تتم الإجراءات التي تفتح الطريق أمامه وتهيئ المناخ الصحي له،
مثل إلغاء العمل بقانون الطوارئ، وتفعيل لجنة العفو الرئاسي للإفراج عن المحبوسين احتياطياً، وإطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان كان الحوار السياسي حاضراً عندما تكون القيادة جاهزة لتقدم كشف الحساب للشعب هاؤم اقرأوا كتابيه ويكون الحوار حول من هنا إلي أين وما هو جدول أولويات العمل الوطني في السنوات القادمة
وكيف نعيد توزيع الأعباء مع توزيع الثمار لا يجب أن ينسي أحد أن العمل والإنجاز كان يجري في السنوات الثلاث الأخيرة في ظل جائحة كورونا التي فرضت الإغلاق الاقتصادي والاجتماعي علي كل دول العالم،
ومازالت دول كثيرة لم تبرأ منها حتي الآن ثم في ظل الحرب الروسية الأوكرانية بتبعاتها ومستجداتها علي الاقتصاد العالمي من أزمات تضخم متزايد، ونقص في موارد الطاقة والغذاء،
وتوجيه مزيد من الإنفاق لشئون الدفاع في الدول الأكثر ارتباطاً بهذه الحرب وأن سياسة مصر الخارجية ودبلوماسيتها، كان عليها عبء كبير تحملته بنجاح وحققت فيه اختراقات نعرفها جميعاً، في ملفات تجفيف المنابع الخارجية لتمويل الإرهاب، أو توفير
ملاذات وحاضنات آمنة للإرهابيين
وهو ما أدي إلي تطبيع علاقات مصر مع أطراف إقليمية، انعكست آثاره علي الداخل المصري متمثلة في إعلان القضاء علي الإرهاب، وبدء عودة الحياة الطبيعية لسيناء وأهلها الأبطال والحق أن تشكيل مجلس أمناء للحوار الوطني كان نقطة فارقة
وكاشفة عن جدية الدولة في سعيها لحوار سياسي وطني خلاق فقد ضم ممثلين على مستوي عال لكل الأحزاب والقوي السياسية والشبابية والنسائية بلا استثناء وكان اختيار زميلنا الدكتور ضياء رشوان نقيب الصحفيين في ذلك الوقت لقيادة هذا المجلس،
إشارة لا تخطئها العين لتقدير الدولة للرأي العام ولدور الصحافة والإعلام في تشكيل الوعي الوطني، فضلاً عما يتميز به ضياء من كفاءة علمية ومهنية وخبرة في إدارة الحوارات الجادة والتوفيق بين الرؤي المختلفة، عبر ما يقرب من أربعين سنة قضاها دارساً للعلوم السياسية،
وباحثاً استراتيجياً في شئون الجماعات الإسلامية لقد كانت فترة السنة التي تقترب من نهايتها، ما بين إطلاق الدعوة للحوار وما نحن فيه الآن من الاستعداد لانطلاق جلساته، هي أشبه بورشة عمل شاملة وممتدة،
بدأت بأحزاب كانت نائمة واستيقظت فجأة على مهمة وطنية لم تستعد لها، ولم تتدرب عليها كانت كثير من الأحزاب لا تملك في الأصل مقومات الأحزاب السياسية الكاملة، وليس لديها رؤية جاهزة لقضايا العمل الوطني
كان هناك تفاوت بين من يبدأ من الصفر ومن هو جاهز للمهمة واقتضي ذلك وقتاً طويلاً حتى تستكمل أطراف الحوار أوراقها، وتستقر على اختيار ممثليها، في الوقت الذي كان على مجلس الأمناء أن يصنع نظامه الأساسي، ويحدد لجانه، ويوزع
المسئوليات بين أعضائه، ويدعو الرأي العام إلى المشاركة بآرائه وتصوراته فيما ينبغي
أن يكون عليه جدول أعمال الحوار وقضاياه وأسلوب عمله، ويتلقي آراء مئات الآلاف من المواطنين في ذلك، وأن يضع خلاصة ذلك في أوراقه التي سيقدمها في جلسات الحوار
ولقد أدار الدكتور ضياء جلسات المجلس ودولاب عمله بكل حنكة واحترافية واقتدار، واستطاع أن يجمع شمل كل الأطراف وأن يواجه بشجاعة بعض الدعوات للمقاطعة والانسحاب، مع مرونة في الاستجابة لبعض المطالب المشروعة ولقد كان من حسن الطالع أن يأتي الإعلان عن الموعد المقترح لانطلاق جلسات الحوار
بعد أيام من إعلان نتيجة انتخابات نقابة الصحفيين، وأن يسلم ضياء مسئوليته النقابية لنقيب جديد مستقل هو الزميل خالد البلشي الذي أعتبر ـ شخصياً ـ أن انتخابه أحد مخرجات الحوار ومؤشر على مناخ جديد يتسع لكل الوطنيين
بقلم/الأستاذ محمد أبو الحديد
الكاتب الصحفي القدير