نظراً لمعاناة المنطقة العربية من أوجه قصور وتحديات عديدة يأتي في مقدمتها أساليب توفير البيانات والإحصاءات اللازمة لدعم عمليات إتخاذ القرارات، ولمعاناة البلدان العربية على إختلاف إمكانياتها من عدم إتساع وعمق وموثوقية المعلومات المتاحة، فقد جاءت توصيات الإصدار الثامن من تقرير التنمية العربية «دور البيانات وتوافرها فى دعم عملية التنمية فى الدول العربية» والصادر من المعهد العربى للتخطيط بالتعاون مع معهد التخطيط القومى والجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، لدعم أساليب تعزيز النظم الإحصائية، وزيادة الاستثمار فى تدريب وتطوير المختصين من الإحصائيين والمحللين وجامعى البيانات، لضمان توفير الموارد التكنولوجية والبنية الأساسية الكافية، ورفع مستويات سلامة البيانات وسريتها وشفافيتها، فضلًا عن تحسين جودة البيانات وشموليتها واعتماد المعايير والمنهجيات الإحصائية الدولية الخاصة بإتساق البيانات، مما يدعم اساليب إجراء المسوحات المنتظمة.
هذا كما ركزت توصيات هذا التقرير على دعم أساليب الوصول إلى البيانات واستخدامها في محاولة لتوفير بوابات ومنصات بيانات سهلة الاستخدام لتعزيز الإستفادة من البيانات فى صنع القرار بالمعنى الشامل، وذلك في محاولة لاستخدام أساليب الذكاء الاصطناعى لضمان رفع مستويات مصادر البيانات التقليدية، مما يضمن دمج أنظمة المعلومات لتحسين التحليل ورسم خرائط البيانات، هذا كما أكد التقرير أهمية تحفيز التعاون والتكامل الإقليمى بين الدول العربية لرفع مستويات تبادل الممارسات والخبرات والموارد وتعظيم الاستفادة من برامج المساعدة الفنية التى تقودها المنظمات الإقليمية مثل الإسكوا، والبنك الدولى، وصندوق النقد الدولى، خاصة وأن الأنظمة الإحصائية الوطنية العربية تواجه العديد من التحديات مثل توحيد المفاهيم والتعريفات.
ونظراً لما تواجهه بعض الدول، وفقاً للتقرير، من صعوبات فى توفير القدرات البشرية والتكنولوجية اللازمة لجمع ونشر البيانات بشكل فعّال، وهذه القيود تعيق التحول الرقمى والحوكمة، مما يستدعي ضرورة تحفيز التعاون والتكامل الإقليمى بين الدول العربية لضمان تحقيق أفضل ممارسات التنمية الإحصائية، والعمل على توحيد الأساليب والتعريفات الإحصائية لتسهيل التكامل الإقليمى، وتعزيز تنفيذ مبادرات بناء القدرات وبرامج المساعدة الفنية التى تقودها المنظمات الإقليمية، وتحفيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص للإستفادة من الموارد والخبرات الإضافية، خاصة وأن العديد من الدول النامية لا تزال تعاني من فجوة البيانات، نظراً لمعاناة العالم النامي مما يعرف بحرمان البيانات.
هذا كما أوضح التقرير عدم توافر بيانات عن الاستراتيجية الإحصائية لدى مجموعة دول الخليج العربي، وذلك على الرغم من توافر خطط إحصائية ممولة لديها، وفيما يتعلق بالأداء العربى بشأن البيانات، فقد بلغ متوسط المؤشر نحو ٢٩.٣ نقطة، وهو أقل بكثير عن المتوسط العالمى، كما بلغ معامل التباين بين الدول العربية ٢٠ نقطة، وهو أعلى بكثير عن المستوى العالمى، وقد أوضح التقرير وجود دول عربية لم تُنشأ جمعيات إحصائية للمساهمة فى عملية التخطيط، حيث أشار إلى أن كل من تونس، والكويت، وجيبوتى، وجزر القمر، والمغرب لم تنخرط فى هذه المبادئ الأساسية، كما ذكر التقرير دول محددة لا تتوفر لديها بيانات وهى سوريا، والصومال، واليمن، ولبنان، والبحرين.
وحيث ان حوكمة البيانات أصبحت تحظى بإهتمام الحكومات الساعية لتجويد مخرجات المنظومة الإحصائية الوطنية ورفع ثقة مستخدميها، فقد أشار التقرير إلى ضرورة تنفيذ الدول العربية استراتيجيات واضحة للبيانات، وإصدار الأُطر القانونية للتعامل مع البيانات كأصل حكومى، والاستثمار فى إدارة البيانات لضمان توفير الموارد اللازمة للبنية التحتية للبيانات، واستكشاف التقنيات المتقدمة الخاصة بها، وتنسيق جهود مشاركة البيانات، فقد أكد التقرير على أنه من المفضل إتساق سياسات حوكمة البيانات التى تتبناها الدول العربية مع السياسات الأخرى ذات الصلة، مثل سياسات الأمن السيبرانى، مع ضمان عدم الخلط والإلتباس فى المهام والمسئوليات، كما أكد التقرير ضرورة سعي الحكومات العربية لتطوير آليات رقابة ومتابعة وتقييم أدوات تطبيق سياسات حوكمة البيانات، لضمان رفع مستويات التطبيق، كما يجب أن تخصص الدول كيانات أو هيئات مؤسسية محددة يتمثل دورها الرئيسي في تعزيز آليات الرقابة على الجهات الحكومية فيما يتعلق بالتعامل مع البيانات، وتوفير آليات للشكاوى والتظلمات المتعلقة بالتعامل مع البيانات.
ختاماً، تجدر الإشارة إلى أن هذه النوعية من التقارير تعتبر ذات أهمية بالغة، نظراً لما توفره من مؤشرات خاصة ببيان الوضع التطبيقي لبيئة الأعمال، فهاهو هذا التقرير يوضح معاناة كثير من المحاور المرتبطة بالبيانات وأساليب جمعها وتحليلها وعرضها، فقد أوضح هذا التقرير عدم تمتع منظومة الحسابات القومية العربية بالتحديث الدورى، وعدم انتظام دورية تنفيذ ما تعتمد عليه من مسوح إحصائية وتعدادات إقتصادية، مما يعني إعتمادها على مصادر بيانات إدارية قد لا تلبى إحتياجاتها، كما أوضح أن أغلب الدول العربية تواجه مشكلات عديدة عند تغطيتها للقطاع غير الرسمى ضمن تقديرات الناتج الإجمالى، وذلك على الرغم من أن أنشطة هذا القطاع أخذة في التزايد بشكل كبير ومضطرد.
ومن هذا المنطلق تتضح لنا أهمية وحتمية الإهتمام بآليات التعامل مع البيانات ودورها في تقدير القيم المستقبلية، خاصة في ظل ما نشهده من تطورات تكنولوجية في هذا المجال، فلم يعد إهتمام الجهات المختصة قاصر على تشخيص فجوات البيانات التي تعيق مسيرة التنمية، بل بات من الضروري انتهاج أساليب هامة لتحسين النظم الإحصائية الوطنية وتعزيز إستخدامها لدعم الاستراتيجيات التنموية بوضوح من خلال أنظمة بيانات موثوقة لضمان تحقيق أهداف التنمية المستدامة ومواكبة التطورات العالمية، ونود التأكيد على أن هذا لن يتأتى دون تبني التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة لتحسين جودة البيانات مما يسهم في توجيه الموارد نحو الأولويات وتحقيق أكبر أثر.
بقلم/ دكتور ناصر عبد المهيمن
الخبير الاقتصادي