بقلم/دكتور ناصر عبد المهيمن
كان لوباء كورونا COVID-19 تأثيرات اقتصادية واجتماعية عميقة أدت إلى تراجع مستويات التنمية البشرية بمختلف بلدان العالم،
حيث قُدرت خسائر الوظائف في جميع أنحاء العالم بحوالي 255 مليون وظيفة، وإرتفاع عدد السكان تحت خط الفقر بنحو 130 مليون نسمة خلال العام الماضي.
ولقد تمكنا في المقال السابق من تحليل حجم التبادل السلعي الربع سنوي لدول منظمة التعاون الإسلامي وباقي دول العالم،
في محاولة لبيان مدى تأثر حجم التبادل التجاري السلعي لهذه البلدان بجائحة كورونا، حيث تراجعت قيمة التبادل التجاري خلال الربع الثاني من عام 2020م بنحو 26% مقارنة بالربع الأول من العام نفسه،
وبإنخفاض بلغت نسبته نحو 20% مقارنة بنفس الفترة من عام 2019م.
ولرصد ما شهدته بيئة أعمال بلدان منظمة التعاون الإسلامي خلال فترة جائحة كورونا من تطورات، ومدى تمكن هذه البلدان من التعامل مع هذه الجائحة نتعرض فيما يلي للبيانات بشكل أكثر تفصيلاً من خلال تحليل تطورات مؤشرات الصادرات والواردات السلعية الربع سنوية لبلدان المنظمة خلال العامين الأخيرين.
حيث بدء مؤشر حجم الصادرات السلعيه في تحقيق معدلات زيادة بداية من الربع الثالث من عام 2020م بزيادة بلغت نحو 18% مقارنة بالربع الثاني من نفس العام،
كما تمكنت الصادرات السلعية خلال الربع الرابع من نفس العام من تحقيق زيادة بلغت نسبتها نحو 11.5% مقارنة بالربع السابق.
كما سجلت واردات بلدان منظمة التعاون الإسلامي زيادة بلغت نحو 9.6% ونحو 9.1% خلال الربعين الثالث والرابع من عام 2020م على التوالي.
وعليه، يمكننا التأكيد على تمكن إقتصاديات بلدان منظمة التعاون الإسلامي من التعافي من آثار جائحة كورونا.
ويعد ما شهدته هذه المؤشرات من تحسُن بمثابة الدافع لتحليل التغيرات الإقتصادية التي شهدتها بلدان منظمة التعاون الإسلامي خلال فترة جائحة كورونا،
وذلك في محاولة لتكوين صورة واضحة حول ما مرت به بلدان منظمة التعاون الإسلامي العربية من تطورات خلال العامين السابقين، وللتعرف على مدى تمكن البلاد العربية من التعافي من كارثة كورونا.
ففي مصر، قام البنك المركزي بإتخاذ عدد من الإجراءات الإستباقية لمواجهة تداعيات وباء كورونا بحلول مارس 2020،
للتأكد من تيسير الأوضاع النقدية وتخفيف الأثر الاقتصادي والاجتماعي الناجم عنها مع الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي.
كان من بين هذه الإجراءات التحرك الاستباقي للجنة السياسة النقدية بخفض أسعار العائد الأساسية لدى البنك المركزي المصري،
فانخفض سعر الفائدة على الودائع لليلة واحدة ليصل إلى 8,25%، للمساعدة على دعم النشاط الاقتصادي وتخفيف الضغوط في الأسواق المالية المحلية.
كما قررت لجنة السياسة النقدية خفض أسعار العائد الأساسية بمقدار 50 نقطة أساس في كل من اجتماعاتها شهري سبتمبر ونوفمبر 2020م.
مع استمرار محاولات احتواء الضغوط التضخمية المتوقعة، ليصل متوسط المعدل السنوي للتضخم العام لنحو 5%، وهو أقل معدل مسجل له خلال الخمسة عشر عام الماضية.
فما تم انتهاجه من إجراءات إحترازية لاحتواء الفيروس والحد من انتشاره، كالإغلاق العام الجزئي، وقيود الطاقة الاستيعابية،
أدت إلى تراجع إيرادات الأنشطة، مما أدى الى تعرض موازنة الحكومة للضغوط نظراً لتباطؤ النشاط الاقتصادي، وانخفاض الإيرادات الضريبية،
كذلك شهدت مصر خروج تدفقات رأسمالية كبيرة خلال فترة الجائحة، مع انسحاب المستثمرين من الأسواق الصاعدة.
وبالرغم من ذلك تمكنت الحكومة المصرية من إطلاق عدة مبادرات موجهة إلى أكثر القطاعات تضرراً في الاقتصاد المصري،
كقطاع السياحة نظراً لسرعان انعكاس تداعيات الأزمة عليه. كما أن البنك المركزي المصري تمكن من إطلاق عدة مبادرات،
منها تأجيل سداد الاستحقاقات الائتمانية القائمة لمدة ستة أشهر، وتسهيل الحصول على ائتمان بأسعار فائدة تفضيلية،
وكانت هذه التدابير الاستثنائية مهمة لضمان سلاسة تدفق الائتمان في الاقتصاد في أعقاب أزمة كوفيد-19.
وعليه يمكننا التأكيد على أن الاقتصاد المصري تمكن من التعافي من أزمة كورونا، خاصة مع تمكنه من تحقيق فائض أولي –والذي يعني أن إيرادات الدولة تغطي مصروفاتها دون احتساب فوائد الدين- في السنة المالية 20/2021 بلغت نسبته نحو 1.4% من الناتج المحلي الإجمالي،
بفضل استجابة الحكومة المصرية لهذه الجائحة في الوقت المناسب، كما أن الحكومة المصرية تمكنت من تنفيذ مبادرة دعم العمال غير النظاميين في القطاعات الأكثر تضرراً بلغ عددهم نحو 1.6 مليون مستفيد.
أما المملكة العربية السعودية، فقد استجابت حكومتها مبكراً لتداعيات الفيروس، وصدر أمر سامي خلال شهر يناير2020 م بتشكيل لجنة عليـا خاصــة باتخاذ جميع الإجراءات الاحترازية والتدابير اللازمة لمنع انتشار الجائحة، وتم تعليق السفر للصين، ودخول المملكة بالفيزا السياحية.
وسعيا وراء تقليل الأثر السلبي الناتج عن إجراءات مكافحة الفيروس على المواطنين والشركات، حيث تم تغطية نسبة كبيرة من دخول المواطنين المتضررين العاملين في القطاع الخاص،
والسماح بتأجيل دفع ضرائب القيمة المضافة، والإنتاج، والدخل لمدة ثلاثة أشهر، فضلاً عن تقديم باقة دعم للمشروعات الصغيرة والمتوسطة حسب الحاجة،
فيما تم ضخ مليارات الريالات لوزارة الصحة السعودية، لضمان توفير العلاج المجاني لجميع المصابين.
ومع اشتداد قوة الأزمة توالت جهود المملكة في التعامل معها، حيث تم تعليق العمرة، والتعليم، والرحلات الجوية (دولية كانت أو داخلية)،
كذلك حظر التجول جزئي ثم كلي على مختلف مناطق المملكة، وإقامة شعائر الحج بأعداد محدودة جداً.
لتنخفض الإيرادات النفطية وغير النفطية بمعدل تراجع بلغ نحو 17%، كما تراجعت إيرادات الضرائب بنسبة 10%.
وعليه يمكننا التأكيد على أن الاقتصاد السعودي تأثر بالتداعيات الناتجة عن جائحة فيروس كورونا، إلا أن التدابير التحفيزية العديدة التي تم تبنيها لا سيما على صعيد السياستين النقدية والمالية كان لها دور بارز في تخفيف حدة مشاكل الجائحة المُسجلة في ظل تراجع مستويات الناتج المحلي الإجمالي خلال العام الماضي.
حيث تم تنفيذ عدة مبادرات أطلقتها الحكومة السعودية خلال جائحة كورونا، وعلى رأسها حزمة الاجراءات الاحترازية،
وقيام البنك المركزي بدعم البنوك والقطاع المالي، ليتمكن الاقتصاد السعودي من التحسُن، وبالفعل تمكن الناتج المحلي الإجمالي السعودي من تحقيق نمو بلغت نسبته نحو 1.8% خلال الربع الثاني 2021م مقارنة بالربع المماثل من العام السابق،
وهو ما جاء مدعوما من نمو في القطاع غير النفطي بـ 8.4%، حيث بلغ الارتفاع في القطاع الخاص 11.1% والقطاع الحكومي 2.3%.
فهذه النتائج تعكس سرعة تعافي الاقتصاد السعودي، حيث تحسن معدل البطالة بين السعوديين بشكل جيد خلال الربع الأول من العام الجاري.
هذا كما نود الإشارة إلى أنه بالرغم مما شهدته بيئة الأعمال السعودية خلال عام 2020م من صعوبات، فقد تمكنت الحكومة السعودية من زيادة حجم المعروض النقدي بنسبة 8.3%،
وفي هذا تأكيد على أن تأثر الاقتصاد السعودي جاء أقل حدة من نظرائه، وهو ما كان ليحدث لولا توافر مقومات خاصة بالحكومة السعودية واقتصادها.
وفي الإمارات العربية المتحدة، ففي ظل ما يمتاز به الإمارات من انفتاح اقتصادي ومكانة إقليمية على صعيد جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة،
ظهرت علامات للتعافي الاقتصادي بداية من الربع الثالث من عام 2020م بفعل ما تم انتهاجه من حزم للتحفيز الضخمة على الصعيدين النقدي والمالي،
فقد تمكنت الحكومة من تبني حزمة تحفيز بلغت قيمتها نحو 282.5 مليون درهم.
الأنشطة الاقتصادية الأكثر تأثراً بالإمارات المتحدة، من حيث الأنشطة الاقتصادية المتأثرة سلباً من بين مكونات الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لعام 2020م مقارنة بـ2019م،
فقد حققت أنشطة الإقامة والخدمات الغذائية تراجعاً بلغت نسبته نحو 23.6%، كما تراجعت أنشطة النقل والتخزين بنسبة 15.5%،
وتجارة الجملة والتجزئة بنسبة 13.1%، بينما تراجعت أنشطة التشييد والبناء بنسبة 10.4%، وتراجعت الأنشطة المالية وأنشطة التأمين بنسبة 3%.
لذلك اعتمد مجلس الوزراء العديد من المبادرات لتنشيط وتحفيز الاقتصاد، وكانت بمثابة انطلاقة لمحركات التعافي والعودة للنمو ونقلة نوعية لدعم قدرة الاقتصاد الإماراتي في مجابهة ظروف وباء كورونا الاستثنائية.
وكان تركيز موازنة عام 2020م منصب بشكل أساسي على توفير الدعم المالي الذي تحتاجه حزم التحفيز وإجراءات دعم النشاط الاقتصادي،
خاصة في ظل تراجع الإيرادات العامة نتيجة انخفاض الإيرادات النفطية نتيجة انخفاض كميات الإنتاج وأسعاره، فضلاً عن انخفاض الإيرادات الضريبية نتيجة انكماش مستويات النشاط الاقتصادي بنحو 6%.
كما اتجه المصرف المركزي إلى السماح لجميع البنوك بالاستفادة من رأس المال الوقائي الإضافي،
كما تم تخفيض حصص رأس المال التي يتعين على البنوك الاحتفاظ به مقابل قروضها الممنوحة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة بنسبة تتراوح ما بين 15% و 25%.
وعليه يمكننا التأكيد على أن دولة الإمارات، التي تعد مركزاً للتجارة في المنطقة، قد عانت من تداعيات سلبية قوية لجائحة كورونا التي تسببت في شلل قطاعات حيوية لاقتصادها مثل السياحة، والنقل، والشحن،
إلا أن احتلال دولة الإمارات المركز الأول عربياً في مؤشر التعافي الاقتصادي من آثار وباء كوفيد19 الذي نشرته مجموعة هورايزون البحثية إنما هو خير دليل على جدارة وصلابة إمكانات ومقومات الدول الشقيقة،
والتي ساعدتها على تجاوز الأزمة والتعافي منها، فوفقاً للمؤشر -الذي غطى 122 دولة– ما كان للإمارات العربية أن تأتي في مقدمة الدول العربية دون مجموعة من العوامل يأتي في مقدمتها نظام مؤسسي قوي،
وقدرات رقمية عالية لمختلف القطاعات، علاوة على ارتفاع المستوى التعليمي للسكان.
ختاماً، كان ما تم تناوله فيما سبق بمثابة مؤشرات دالة على قوة ما تمتاز به مجموعة البلدان العربية وحكوماتها من مقومات وإمكانيات،
وهذا بالرغم من جودته لدوره في دعم اقتصاديات بلادنا العربية، إلا أنه يُعد بمثابة تحد، فهذه المقومات والإمكانيات في حاجة مستمرة للعديد من الاستراتيجيات والرؤا المستقبلية لضمان حُسن التعامل مع القدرات والامكانيات،
لتهيئة البيئة التشريعية والاستثمارية اللازمة لازدهار القطاع الإبداعي، وزيادة جاذبيتها للمبدعين والمستثمرين ورواد الأعمال،
ولضمان توفير حزماً من المحفزات التي تواكب تغيرات بيئة الأعمال السريعة، وتسخرها لإثراء بيئة أعمالنا وقدرتها على التواجد والاستمرار والمنافسة.
فها هو معدل نمو السيولة المحلية بالبلدان العربية يحقق إرتفاعا ملحوظاً خلال عام الجائحة، وهو ما يعكس الاتجاهات التوسعية للسياسة النقدية في معظم البلدان العربية،
وهذا يؤكد أنه بالرغم من أن الأوضاع النقدية والمالية في هذه البلدان تأثرت بالتطورات الاقتصادية الإقليمية والدولية في فترة كورونا،
نتيجة للتغيرات في أسواق كافة السلع لاسيما النفط، فقد كان للسياسة النقدية بالدول العربية دوراً كبيراً في التخفيف من تداعيات الجائحة من خلال تبني العديد من التدابير التي عززت من مستويات ثقة المستثمرين،
ودعمت أوضاع السيولة المحلية، ووفرت الائتمان اللازم، وهذا كله يجعلني أؤكد على أننا قادرون، إلا أن الطريق مازال طويل.
،،،،،،،،،، يتبع