بقلم/ الدكتور ناصر عبد المهيمن
تناولنا في أول مقال من هذه السلسلة بيان مدى تمكن بلدان منظمة التعاون الإسلامي من التعافي مما خلفته جائحة كورونا من أثار اقتصادية كانت او اجتماعية، وتبين لنا تمكن اقتصاديات مجموعة بلدان منظمة التعاون اٌلإسلامي من التعافي والتخلص من آثار الجائحة، حيث بدأت مؤشرات التبادل التجاري لهذه المجموعة في تحقيق معدلات زيادة بداية من الربع الثالث من العام الماضي.
وفي محاولة لبيان حال اقتصاديات البلدان العربية خاصة، تناول المقال السابق تحليل ما شهدته بعض البلدان العربية من تغيرات اقتصادية واجتماعية خلال فترة الجائحة، وذلك في محاولة لتكوين صورة واضحة حول ما مرت به هذه البلدان العربية من تطورات، وللتعرف على مدى تمكن البلاد العربية من التعافي من كارثة كورونا، لنتمكن من التوصل إلى أنه بالرغم من تأثر الأوضاع النقدية والمالية في هذه البلدان بالتطورات الإقليمية والدولية في فترة كورونا، مع ما شهدته أسواق كافة السلع من تغيرات، فقد كان للسياسة النقدية بالدول العربية دوراً كبيراً في التخفيف من تداعيات الجائحة من خلال تبني العديد من التدابير التي عززت من مستويات ثقة المستثمرين، ودعمت أوضاع السيولة المحلية، ووفرت الائتمان اللازم.
ومع أهمية ما تم الوصول إليه من نتائج خلال المقالين السابقين، ومع أهمية إكتمال توضيح الصورة حول مدى تمكن بلدان منظمة التعاون الإسلامي من التعافي من جائحة كورونا، نرى أهمية وضرورة دراسة وتحليل ما واجهته البلدان غير العربية بمنظمة التعاون الإسلامي، وهذا ما يستهدفه هذا المقال.
ففي ماليزيا، ها هو قطاع السياحة الذي يحتل المرتبة الثالثة في الإنتاج المحلي يشهد ركود شبه تام نجم عنه أضرار اقتصادية ضخمة، حتى في مجال السياحة العلاجية الذي تحتل فيه ماليزيا المركز الأول عالميا إذ تستقبل لهذا الغرض نحو 1.3 مليون سائح، ليفقد الاقتصاد الماليزي حوالي 700 مليون رينجيت (169 مليون دولار) في اليوم الواحد، منذ أن سُمح للقطاعات الأساسية فقط بالعمل في يناير 2020م، ومع إرتفاع أعداد المصابين إعتمدت الحكومة الماليزية إجراءات للسلامة تتضمن قياس الحرارة وأخذ البيانات الشخصية في الاسواق، واقتصار استخدام وسائل النقل العام على نصف طاقتها، والالتزام بالتباعد الاجتماعي، ومنع الاحتفالات تماماً، كما تم غلق الحدائق العامة والمتنزهات، وعمل نحو 40% من موظفي القطاع الخاص من منازلهم، وإغلاق الأماكن المعرضة للخطر على الفور.
ليسجل الناتج المحلي في ماليزيا انكماشاً بلغ نحو 17% خلال الربع الثاني من عام 2020م، ووفقاً لتحليل بيانات إستعادة الاقتصاد الماليزي
لمكانته والتخلص مما شهده من مخاطر خلال الجائحة، يتبين لنا اتخاذ صادرات وواردات ماليزيا السلعية إتجاهاً عاما نحو التراجع، ليشهد الربع الثاني من العام السابق أدنى مستوياتهما، ثم هاهو الاقتصاد الماليزي يتابع إستعادة مكانته لتأخذ تجارته الخارجية اتجاهاً عاماً نحو الصعود المستمر بداية من الربع الثالث من عام 2020م، مسجلة صادراته قيمة بلغت نحو 73 مليار دولار خلال الربع الثاني من عامُنا الحالي.
وفي ذلك تأكيد تام لما يتمتع به الإقتصاد الماليزي من مزايا وقدرات وترابط، فقد تمكنت الحكومة الماليزية من التعامل الجاد مع هذه الجائحة، وكبح جماحها، والتخلص مما واجهها من صعاب خلال فترة الجائحة.
أما تركيا، فخلال فترة الجائحة شهدت البلد تطورات هامة ذات أثر مباشر على بيئة أعمالها، حيث تم الإعلان عن أول إصابة بفيروس كورونا في البلاد خلال مارس 2020م، ليتم البدء في إغلاق وتطهير جميع المدارس، ولعب المباريات الرياضية في ملاعب خالية من الجماهير، وتأجيل جميع زيارات الرئيس الخارجية حتى إشعار آخر، وإغلاق جميع المكتبات في تركيا، وإغلاق النوادي الليلية، وحظر تجمعات الصلاة في المساجد، بما في ذلك صلاة الجمعة.
وكان لما شهدته تركيا من تطورات متلاحقة في أعداد المصابين خلال مرحلة تفشي كورونا، دور بارز في تسريع الاستثمارات الصحية بشكل أكبر، فتم فتح مستشفيات جديدة في العديد من الولايات والمناطق، وجرى افتتاح 17 مدينة طبية في 9 ولايات، والعديد من المستشفيات التخصصية بغرض توفير أفضل الخدمات الصحية للمواطنين.
إنكماش الاقتصاد التركي، نتيجة لتأثيرات الوباء انكمش اقتصاد تركيا بنسبة 10.3% خلال الربع الثاني من العام الماضي، كما تراجع عدد الوافدين إلى البلاد بنسبة بلغت نحو 62% على أساس سنوي في نوفمبر 2020، ليعمّق ذلك من جراح القطاع الذي يعاني من تأثيرات جائحة فيروس كورونا، وكان التضخم السنوي في تركيا قد قفز قفزة كبيرة، مسجلاً 14% في نوفمبر2020.
مؤشرات التعافي، وفقاً لمؤشر تطور حجم تجارة تركيا الخارجية، فقد بدأت أيضا تجارة تركيا في استعادة مكانتها خلال الربع الثالث من العام السابق، حيث شهدت تجارة البلدان نمواً بلغت نسبته نحو 33% مقارنة بالربع الثاني من عام 2020، لتستمر في الصعود حتى الربع الثاني من العام الجاري.
هذا كما أن مؤشر الناتج المحلي الإجمالي يؤكد أن الاقتصاد التركي تمكن من بدء مسار العودة لطبيعته في الربع الثالث من العام السابق، إذ سجل نسبة نمو بلغت نحو 6.3%. ليس هذا فحسب، فقد كشفت هيئة الإحصاء التركية أن اقتصاد البلاد تمكن من النمو بنحو 5.9% خلال الربع الأخير من العام السابق، ليحل بذلك في المركز الثاني بعد الصين، في قائمة الدول الأكثر نمواً ضمن بلدان مجموعة العشرين.
وبذلك تجدر الإشارة الى أن ما تم الوصول اليه من نتائج في هذه السلسة من المقالات، انما هو محاولة لبيان حال اقتصاديات البلدان الاسلامية خلال فترة جائحة كورونا ومدى تمكنها من التعامل الجدي معها ومع ما خلفته من آثار سلبية اقتصادية أو اجتماعية، فقد تمكنت كورونا من كشف الكثير من نقاط الضعف في النظام العالمي، فعلى الرغم من تنامي قدرات الدول في التعامل مع الأزمات، إلا أن هذا الفيروس تمكن من عزل الدول والولايات وشعوبها عن بعض، ليس هذا فحسب بل تمكن من حجر الناس في بيوتها وهم أصحاء.
وهذا كله وغيره من الأثار كان بمثابة الدافع الحقيقي وراء دراسة وتحليل مستويات تعافي إقتصاديات البلدان الإسلامية، ومدى دقة ما استخدمته حكوماتها من أدوات ومبادرات وسياسات للتعامل مع جائحة كورونا، فمن خلال هذه السلسلة من المقالات تأكد لنا قوة وقدرة إقتصاديات بلدان منظمة التعاون إلاسلامي على التعامل مع هذه الجائحة، فها هي مؤشرات صادرات وواردات بلدان المنظمة السلعية تحقق معدلات زيادة مستمرة من الربع الثالث من عام 2020م. وفي ذلك تأكيد على تمكن البلدان الإسلامية من تهيئة البيئة التشريعية والاستثمارية اللازمة لازدهار مجتمعاتها، وضمان توفير حزماً من المحفزات التي تواكب تغيرات بيئة الأعمال السريعة، وتسخيرها لإثراء بيئة أعمالها وقدراتها على مواجهة ما خلفته كورونا من صعوبات، ليحقق معدل نمو السيولة المحلية بالبلدان العربية إرتفاعاً ملحوظاً خلال عام 2020م، وهو ما يعكس الاتجاهات التوسعية للسياسة النقدية في معظم البلدان العربية، هذا كما تمكن الناتج المحلي الإجمالي نسبة نمو جيدة.
وبناءً على ما سبق، نرى إكتمال وضوح الصورة، فقد تبين لنا أن اقتصاديات العالم عامة، واقتصاديات البلدان الإسلامية خاصة، شهدت تراجعات كبيرة خلال الربع الأول من عام 2020م، ثم جاء الربع الثاني من نفس العام ليشهد تراجعات حادة في كافة مناحي الحياة إذ أثر الفيروس بشكل كبير على جميع جوانب وقطاعات الحياة، وهو ما ساهم في تنامي سياسات المواجهة التي انتهجتها كافة الحكومات، ليشهد الربع الثالث من عام 2020م تطورات إيجابية في أداء اقتصاد البلدان الإسلامية (عربية وغير عربية)، لتكتمل بذلك الإجابة على سؤالنا الذي لا يمكن إعتباره مجرد سؤال عابر “هل بدأت إقتصاديات البلدان الإسلامية في التعافي؟“.